يعد هذا الكتاب واحدًا من أكثر الدراسات المثيرة إن لم يكن الأكثر إثارة في تاريخ اليهود التي رأت النور خلال السنوات الأخيرة. ويقوم المؤلف فيه برحلة نبش تمتد على مدار آلاف السنوات إلى الوراء. وكانت حصيلتها النهائية طرحا مسهبا يثبت أن اليهود الذين يعيشون اليوم في إسرائيل وفي أماكن أخرى من العالم ليسوا على الإطلاق أحفاد «الشعب العتيق» الذي عاش في «مملكة يهودا» إبان فترة «الهيكل الثاني».
صدر هذا الكتاب عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية «مدار» وفي الوقت نفسه عن منشورات المكتبة الأهلية في عمان كتاب «اختراع الشعب اليهودي»، من تأليف البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، وذلك في ترجمة عربية راقية أنجزها سعيد عيّاش ودققها أسعد زعبي وراجعها وقدّم لها أنطوان شلحت.
ويعد هذا الكتاب واحدًا من أكثر الدراسات المثيرة إن لم يكن الأكثر إثارة في تاريخ اليهود. وبحسب ما يقوله المؤرخ الإسرائيلي فإن أصول اليهود تعود إلى شعوب متعددة اعتنقت اليهودية على مرّ التاريخ في أماكن شتى من حوض البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة.
وخلافاً للـ«مؤرخين الإسرائيليين الجدد» الآخرين، الذين سعوا إلى تقويض مسلمات الهستوريوغرافيا الصهيونية وحسب، فإن المؤلف ساند لا يكتفي في هذا الكتاب بالعودة إلى سنة 1948 أو إلى بداية الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، بل يبحر آلاف السنين إلى الوراء، ساعياً إلى إثبات أن الشعب اليهودي لم يكن أبداً «شعبا عرقيا» ذا أصل مشترك، وإنما هو خليط كبير ومتنوع لمجموعات بشرية تبنت خلال مراحل مختلفة من التاريخ الديانة اليهودية. وبحسب قوله فإن النظرة الميثولوجية إلى اليهود كشعب عريق أدّت بعدد من المفكرين الصهيونيين إلى تبني فكر عنصري تماماً.
ويقول ساند: «كانت هناك فترات في أوروبا إذا ما قال فيها أحد بأن جميع اليهود ينتمون إلى شعب ذي أصل غير يهودي فإن مثل هذا الشخص كان يُنعت فوراً باللاسامية. أما اليوم فإذا ما تجرأ أحد ما على القول إن الذين يعتبرون يهوداً في العالم (...) لم يشكلوا أبداً شعباً أو قومية، وإنهم ليسوا كذلك حتى الآن، فإننا نجده يوصم في الحال بكراهية إسرائيل».
وهو يرى أن وصف اليهود كشعب مشرد ومعزول من المنفيين الذين «عاشوا في تنقل وترحال على امتداد الأيام والقارات ووصلوا إلى أقاصي الدنيا وفي نهاية المطاف استداروا مع ظهور الحركة الصهيونية كي يعودوا جماعياً إلى وطنهم الذي شردوا منه» ما هو إلاّ «خرافة قومية» فاقعة.
ويضيف أنه «في مرحلة معينة من القرن التاسع عشر أخذ مثقفون من أصل يهودي في ألمانيا على عاتقهم مهمة اختراع شعب بأثر رجعي، وذلك من منطلق رغبتهم الجامحة في اختلاق قومية يهودية عصرية. ومنذ المؤرخ هاينريخ غيرتس شرع كتاب ومثقفون يهود بإعادة كتابة تاريخ اليهود كتاريخ شعب تحول إلى شعب مشرد وانعطف في نهاية المطاف ليعود إلى وطنه».
ويتصدّر كتاب «اختراع الشعب اليهودي» مقدمة كتبها المؤلف إلى قراء الطبعة العربية وأشار فيها، ضمن أمور أخرى، إلى أنه أنجز هذا الكتاب بعد التقدم المفاجئ للهستوريوغرافيات المسماة في إسرائيل «ما بعد صهيونية». وأضاف: لقد تلقفت إنجازات علوم الآثار الإسرائيلية الجديدة، وأضفت لذلك تحليلا لأبحاث تاريخية قديمة منسية ودمجتها سوية مع نظريات عصرية في بحث الأمة والقومية. وربما لم أكتشف أي جديد في هذا الكتاب، ومع ذلك فقد أزلت الغبار عن مواد جرى تهميشها ونظمت المعلومات بشكل نقدي لم يسبق، وفقا لمعرفتي، أن تم طرحه قبل ذلك.
وقد اتهمني المؤرخون الصهاينة بأني منكر الشعب اليهودي. ورغم أن نيتهم غير الشريفة من استعمال هذا المصطلح هي التذكير بالجرم القبيح المسمى «إنكار المحرقة» فلا بد لي من الاعتراف بأنهم كانوا على حق. فعلى الرغم من أن مصطلح «شعب» فضفاض، وغير واضح جداً، إلا أنني لا أعتقد بأنه كان في أي زمن مضى شعب يهودي واحد. وأكد مركز مدار، في كلمات التقديم، أن المساهمة الأساسية لهذا الكتاب المهم كامنة في نبش الماضي وإيضاح صيرورة الحاضر، بواسطة فتح النار على الاعتقاد الملفق بالأصل الواحد للشعب اليهودي العرقي. وهو يُعدّ الإيضاح المحدّث، من حيث تناوله الطروحات المتداولة في هذا الشأن حتى الفترة الراهنة، بما في ذلك ضمن مجال الدراسات البيولوجية والوراثية. وفضلاً عن ذلك فإن المؤرخ ساند يصوغ رؤيا تتعلق بالمستقبل تبدو مسنودة بفهم الماضي فهمًا واقعيًا. وما يتبين على نحو جليّ من رؤيته هذه هو أنه مناهض للكينونة التي تحكم إسرائيل على نفسها البقاء في خضمها والتي يرى أنها تنذر بأوخم العواقب.
وكان كتاب «اختراع الشعب اليهودي» قد أثار منذ صدوره لأول مرة باللغة العبرية في عام 2008 ولا يزال يثير مناقشات عاصفة في إسرائيل وخارجها، نظرًا إلى كونه «أحد أكثر الكتب إثارة وتحديًا، مما لم تألفه الأبحاث الإسرائيلية منذ فترة طويلة بشأن موضوعة الشعب اليهودي المشحونة»، وفقًا لأقوال أحد كبار المؤرخين في إسرائيل. كما أنه تُرجم إلى لغات عديدة في العالم. وقال عنه المفكر العالمي المعروف إريك هوبسباوم إنه بمثابة «تمرين ضروري في حالة إسرائيل من أجل تفكيك الخرافة القومية التاريخية والدعوة إلى إسرائيل التي يتشارك فيها على قدم المساواة سكانها كافة». أمّا المؤرخ توني جادت فأشار إلى أن ساند «أعاد بناء تاريخ اليهود وقام بإدماجه في القصة العامة للبشرية، بدلا من أسطورة الأمة الفريدة والمصير الخصوصي. وأشار الكاتب اللبناني إلياس خوري إلى أن «مقولات ساند تذهب إلى المحرّم وتفككه، وهو بهذا ينقل النقاش التاريخي الإسرائيلي من إطار المؤرخين الجدد الذين كشفوا وقائع النكبة والطرد المنظم عام 1948، إلى أفق جديد قوامه إعادة نظر جذرية في المسلمات الصهيونية وإخضاعها لمحاكمة تاريخية جذرية». ورأى الأستاذ الجامعي الدكتور خالد الحروب أن الأطروحة الأساسية لهذا الكتاب «هي أنه لا وجود لقومية يهودية نقية أو شعب يهودي واحد يعود في أصوله الإثنية والبيولوجية إلى جذر منفرد كما يزعم الفكر الصهيوني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك