كتب: أحمد فيصل ضيف
روبيرتو روسيليني كان يعرف بأب الواقعية الإيطالية الجديدة وهي حركة سينمائية اشتهرت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يعتبر من أهم مؤسسيها بعد إصداره فيلمه الثوري Rome, Open City (روما، المدينة المفتوحة). امتازت الحركة بواقعيتها التي تجسد مرارة العيش والفقر بذلك الوقت، وكانت من أهم عواملها هي الاعتماد على كوادر تمثيلية غير احترافية والتصوير بأماكن حقيقية بعيداً عن الاستوديوهات، وهو ما كان يمثل نقلة نوعية عن الأفلام التي كانت تصدر قبل الحرب.
ألهم روسيليني العديد من المخرجين الإيطاليين في ذلك الوقت ومن أهمهم فيدريكو فيليني، فيتوريو دي سيكا، ولوشينو فيسكونتي والذين بحد ذاتهم انطلقوا ليصبحوا من أعظم المخرجين بتاريخ السينما، ولكن عندما نرجع ونعاين تأثيره على السينما العالمية، فنرى ان تأثيره لم يكتفي فقط على السينما الإيطالية، وانما على العديد من الحركات والموجات السينمائية حول العالم، وقد تكون من أهمها هي الموجة الفرنسية الجديدة التي ظهرت في فرنسا بنهاية الخمسينيات وبالتحديد بسبب تحفته Journey to Italy (رحلة إلى إيطاليا).
تدور أحداث الفيلم عن رحلة الزوجين الإنجليزيين أليكس وكاثرين جويس إلى إيطاليا وذلك لغرض بيع الفيلا التي ورثوها من عم أليكس المتوفي. يأخذنا الفيلم إلى أجواء إيطاليا الساحرة والخلابة، وتكون الرحلة بحد ذاتها كالمحفز الوجودي التي ستجعل الزوجين يعاينان علاقة زواجهم المتصدعة والتي تمر بفترة عصيبة وفتور، الفيلم من بطولة الممثلة السويدية الرائعة (انغريد بيرغمان) والممثل الانجليزي المميز (جورج ساندرس)، أبدعت بيرغمان بتقديم أداء عميق مشحون بالمشاعر والتعقيدات الداخلية التي تعيشها شخصية كاثرين بواقعية ومصداقية، فالكثير من المشاعر التي كانت تعيشها الشخصية قدمتها بيرغمان من خلال تعابير العيون والوجه الدقيقة، كذلك الحال مع جورج ساندرس بتجسيده لشخصية برجوازية متضاربة العواطف، ساندرس أفعم شخصية أليكس برقي وكاريزما تتناغم مع وضعها الاجتماعي، في الوقت نفسه أظهر تلك الصراعات الداخلية التي تعيشها الشخصية بمهارة ودون مبالغة.
جمال وروعة العمل ينبع من كيفية تجسيد روسيليني للمكان وأهميته في سياق الأحداث، فإيطاليا لم تكن مجرد مساحة خلفية للشخصيات، بل كانت دائما العنصر الأمامي للأحداث، هذا النوع من التجسيد والتركيز يغذي بشكل واضح ودقيق الصراعات الوجودية والتحديات الزوجية ومرحلة اكتشاف الذات والصحوة التي تخوضها الشخصيات، ان عامل المكان والتاريخ بالعمل يوضحان كذلك التباين الذي تعيشه الشخصيات في حياتها، فعلى سبيل المثال عندما ننظر إلى علاقتهم الزوجية، نرى إنها علاقة تحكمها المصلحة الاجتماعية، بل وتبدو تفاعلاتهم مع بعضهم البعض كنوع من التمثيلية التي يتخللها الجمود، قد يكون الحب بينهما موجودا إلا ان الأقنعة التي يتمسكون بها ويختبؤون خلفها تقمع أية مشاعر عاطفية بينهما، كل هذا مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببيئة المكان التي أتو منها، بينما في المقابل تمثل إيطاليا المكان والبيئة «الجديدة»، فرحلتهم واستكشافهم لعدة أماكن كالاحتفاليات في نابولي، وساحل أمالفي، وكابري وبومبي التي كانت كالمدخل إلى عالم جديد وطريقة عيش مختلفة، فتبدأ العلاقة بالتغير شيئاً فشيئاً، وتسقط الأقنعة والاعتبارات المرتبطة بالمكان القديم، وتزاح واجهة محيطهم التمثيلية، فتنشأ المواجهات والاعترافات وتتطور المشاعر بينهما وتظهر الحميمية على السطح حتى انفجارها بنهاية العمل أثناء الموكب الديني في نابولي والذي يأخذ طابع المعجزة، وكأنه يماشي المهرجان المرتبط بمعجزة القديس جينارو والذي قد يرمز إلى التجديد والبعث، ومن هنا كما ذكرت، تبرز براعة روسيليني بإظهار قوة المكان وتأثيره على الفرد، من خلال أسلوب واقعي ومتزن بتجسيد المكان والعواطف التي تختبرها الشخصيات، وكونه إيطالياً مما زاد ذلك من أصالة وصدق إبراز كل هذه المعالم وجوانبها الدقيقة، ورصد الناس من تصرفاتهم واحتفالاتهم بدون تشويه أو كاريكاتورية كما هو شائع في الأفلام الهوليوودية.
كذلك أحد الأمور المثيرة بتركيبة العمل هي التمازج بين الصنف الدرامي والرومانسي مع الواقعية الإيطالية، وتأثير الواقعية (استخدام ممثلين غير محترفين، تصوير المشاهد في أماكن حقيقية والتركيز على الجوانب الحياتية اليومية) على أيقونات الصنف الدرامي والرومانسي، وبالتالي إعادة تشكيل هويتهم والتوقعات الآتية منهم وتحويل الفيلم إلى فيلم فني مبتكر وملهم، يقوم روسيليني أيضا بإضافة أبعاد أخرى تثري سياق العمل من خلال إدخال العنصر التاريخي والديني، كما في مشهد بومبي الذي يصور أليكس وكاثرين في حالة من التأمل الذاتي وهما يستكشفان أطلال مدينة بومبي القديمة وسط الرماد والأموات المدفونين تحت الأنقاض.
في الختام كما يوحي عنوانه، إن الفيلم عبارة عن رحلة روحانية وعاطفية إلى مكان يؤثر بعمق في حياة الزوجين ويدفعهما إلى استكشاف أغوار أفكارهم، والتأمل في مشاعرهم وأرواحهم، بحثًا عن المعنى والهدف في الحياة، إنها رحلة تحول تمكنهما من إعادة اكتشاف نفسيهما وإشعال الحب الذي يجمع بينهما.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك