في كتابه «نقد العقل الزنجي» يساءل المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي أستاذ التاريخ والعلوم السياسيّة بجامعة فيفاترسراند بجوهانسبرج، وأحد أهم منظري الفكر ما بعد الكولونياليّ، أطروحته الإشكالية المندرجة ضمن سياق دراسة «المستقبليات» التي تقول بأنَّ العالم كلّه آيل إلى الزنجيّة بعد أن فقدت أوروبا مركزيتها الحاكمة، وهذا يعني تفكيكًا حقيقيًا للعلاقة بين العبودية ورأس المال العالميّ والاستغلال الاقتصاديّ. ويرى أنَّ التصوّر الغربيّ عن العقل مغاير للتصوّر الإفريقيّ لكونهما نتاجي جغرافيتين وتاريخين مختلفين. إنَّ الاتصال بين أوروبا وأفريقيا أنتج بالتالي سرديتين؛ الأولى متمثّلة بالوعي الغربيّ للزنوجة، والثانية هي الوعي الزنجي للزنوجة. إنَّ تركيبة «العقل الزنجيّ» عند مبيمبي هي مجموعة من الخطابات والممارسات التي ساوت الزنوجة بما هو ليس بشريًا، وكان هذا القالب الذي حمل كلّ أشكال القمع والاستبداد والاستغلال.
إنَّ ثمّة ثلاث لحظات تاريخيّة فارقة في «الزنوجة» الأولى تتمثل في لحظة السلب المنظم الذي حوّل بفضل تجارة الرق الأطلسية (ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر) رجال ونساء من أصول إفريقّية إلى بشر –أشياء، بشر – سلع، وبشر – نقد، فأصبحوا منذ تلك اللحظة ملكية لآخرين. وتقترن اللحظة الثانية في هذه القصة (بداية القرن التاسع عشر) بميلاد الكتابة وتبدأ حوالي نهاية القرن الثامن عشر عندما أصبح الزنوج، تلك الكائنات التي استولى عليها الآخرون، بإمكانهم مفصلة كلام خاص بهم مع المطالبة بمكانة تجعل منهم ذوات كاملة في العالم الحي. أمّا اللحظة الثالثة (بداية القرن الواحد والعشرين) فهي لحظة عولمة الأسواق وخصخصة العالم المنضوية تحت الليبرالية الجديدة، والتعقيد المتزايد للاقتصاد الماليّ والمركب العسكريّ ما بعد الإمبرياليّ والتكنولوجيات الإلكترونيّة والرقميّة. ويخلص مبيمبي في نهاية أطروحته إلى تأكيد وجود «العقل الزنجيّ» رغم تفاوت مرجعيات الزنوج وتجاربهم الثقافية والاقتصادية في العالم. إنَّ هؤلاء جميعًا يصدرون عن «عقل زنجيّ واحد» يجد جذوره السردية في مرجعيته التاريخيّة الوحيدة الصادرة عن الرّق والاستعباد. إنَّ مبيمبي في هذه الأطروحة يؤكِّد ما تناوله مفكرون زنوج أفارقة قبله من وجود ما أسموه «المركزية الإفريقيّة السوداء» في مقابل المركزيات الأخرى وفي مقدمتها «المركزية الأوروبيّة»؛ وما يستتبع هذه الأطروحة من إعادة تفكيك تاريخ العالم، وإعادة قراءة التاريخ، وجعله منفتحًا على الروايات المتعدّدة، وعلى التواريخ المتوازية وليست التواريخ الوحيدة التي صنعت العالم كما قرّرت ذلك المركزية الأوروبيّة عبر قرون.
وعلى النقيض من أطروحة أشيل مبيمبي اشتغل الروائيّ التنزانيّ عبدالرزَّاق قرنح الفائز بجائزة نوبل في الآداب لعام 2021 على خطاب مضاد للمركزية الإفريقيّة السوداء أو مركزية الزنوجة. إنَّ هذا الروائيّ المولود في أرخبيل زنجبار، والمقيم حاليًا في المملكة المتحدة ابتكر خطابه الروائي المشتغل على موضوعات عابرة للقارات والثقافات في تناوله لموضوع اللاجئين العالقين في هذه الفروقات الثقافيّة العميقة التي تصلح لأن تكون موضوعان إنسانيّة مشتركة للاجئي العالم على اختلاف مرجعياتهم. ولقرنح عدد من الروايات المهمة منها «ذاكرة المغادرة»، و«طريق الحجاج»، و«دوتي»، و«الفردوس»، و«الإعجاب بالصمت»، و«عن طريق البحر»، و«الهجر»، و«الهدية الأخيرة»، و«قلب الحصى»، و«الحياة بعد الموت». إنَّ روايات قرنح متمحورة حول تأثير الاستعمار على هوية الشرق الإفريقيّ، وتجارب اللاجئين الذين يضطرون إلى البحث عن أوطان بديلة. لقد قالت الأكاديميّة السويدية في إعلانها عن فوز قرنح «إنَّ عبدالرزاق قرنح فاز بالجائزة لاقتحامه تأثيرات الاستعمار بصورة لا هوادة فيها وبشكل عميق وسبر غور مصائر اللاجئين». إنَّ الخطاب الروائي هو واحد من أهم الخطابات الإبداعيّة الإنسانيّة التي ترصد العالم في متشابهاته وفي متغيراته؛ ولذلك تحتاج هذه الروايات المغايرة إلى تأويل عميق يسبر أغوارها ومآلاتها السردية!
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك