بينما كُنتُ أتجوَّل في مكتبة «الوقت» الشهيرة باحترافها في إشباع نَهَم عُشَّاق المُطالعة، استوقفني كتاب «علم البديع» للدكتور علي أحمد عمران، ومع الإبحار بين سطوره التي تأخذ القارئ في رحلةٍ بين جُزر السجع والطِّباق والمُقابلة وحُسن التعليل عادت بي سفينة الذكريات إلى الأيام التي كان عقلي يُبحر فيها بين كِتابي «المدخل إلى علم النحو العربي» و«المدخل إلى أصول الإملاء وقواعده» للمؤلف ذاته، على ضِفاف دراستي الجامعية التي كان هذا الأستاذ الجامعي المُبدِع من أهم الشخصيَّات المؤثرة على مسرح أحداثها الواقعيَّة.
مهما حاوَل القلَم قطف أكثر الكلمات نُضجًا من أشجار البَلاغَة لتقديم شهادة يقبلُها تاريخ الثقافة البحرينيَّة بحق هذه الشخصيَّة الثقافيَّة المُتفرِّدة لن يكون بوسعِ قلمي مُنافسة شهادة مؤلَّفاته التي ربما تكون اقترَبَت من أربعينَ مؤلَّفا أو تجاوزتها يوم بزوغ هذا المقال إلى النور، ولا شهادة أرشيف مجلة «المواقف البحرينية» التي كان لها حظ نشر أولى قصائده بعنوان: «ندى الأشواك» عام 1988م، ولا شهادة جُدران الفصول الدراسيَّة عام 1992م في «مدرسة ابن طُفيل» الابتدائيَّة التي كانت تُشارك تلاميذه الصغار ترديد الأبيات السبعة الأولى من قصيدة المُتنبي: «إذا غَامَرْتَ في شَرَفٍ مَروم... فَلا تقنَع بما دونَ النُّجوم» في كُل حصَّة لحظة افتتاح الدرس لبث الحماسَة في نفوسهم وغرس التوق إلى المجد في صميم وجدانهم خلال تلك المرحلة المُبكِّرة من تَبرعُمِ مشاعِرهم، ورُبما كانت تلك العلاقة الإنسانيَّة الوديَّة المُتميّزة بينه وبين نفوس تلاميذه الصغار بدءًا بالمرحلة الابتدائيَّة، مرورًا بالإعداديَّة، وصولاً إلى الثانويَّة؛ من أهم أسرار أسلوبه الاستثنائي في التعامُل مع طُلابه الجامعيين بعد أن نال شهادة دكتوراة الفلسفة في اللغة العربيَّة وآدابها من الجمهورية التونسيَّة عام 2006م، فهو من الأساتذة القلائل الذين لا يكتفون بكونهم مُجرد جسرٍ لتمرير المعلومات للطالب ومُتابعة تنفيذه المُتطلبات الدراسية في حدود الأجر المادي الذي تمنحه إياهم المؤسسة التعليميَّة؛ بل يتعامل مع طُلابه باعتبارهم «حكايات» انسانيَّة تستحق الاهتمام، ولا ينقطع تواصله الإنساني بتلميذه بخِتام أعوام دراسته؛ بل قد يمتدُّ ويتوطَّدُ ويزدهر ازدهارًا قل نظيره مع أي أُستاذٍ آخر. إذا ضربَ أحد طُلابه القدامى موعدًا معهُ تراهُ يُفرغ لهُ وقته، ويستقبلهُ بحفاوة، ويُنصت لهُ بلُطف، ويمنحهُ النصيحة بصدق، لا يتأفف ولا يتململ ولا يتدرَّع بحواجز الفوقيَّة وأسلاك الغطرسة الشائكة، بل يسمح بانسياب الحديثِ انسيابًا مدفوعًا بحُرية التعبير، ما يجعل الطالب راغبًا في تكرار الزيارة استئناسًا بحديث أستاذه الشيّق ورأيه السديد ومسمعهُ الذي لا يمل الإنصات.
مازال لقائي الأوَّل بمكتبة د. علي عمران منحوتًا بإتقان على واحدٍ من أهم جُدران الذاكِرة، كُنتُ أيَّامها – ومازلتُ- مفتونةٌ بالقراءة، كانت روحي تتنفس الكُتُب وتشربها وتأكلها لتتمكن من البقاء على قيد الحياة، ولحظة اجتيازي أحد ممرات «الجامعة الأهليَّة» في طريقي من مُحاضرةٍ إلى أُخرى اختُطِفَ قلبي على الفور بمشهدِ بابٍ يُغلقُ على كُتُبٍ عربيّة مُنسقة في مكتبةٍ بزاوية تحتل جدارين لتمتد من الأرض إلى السقف، شعرتُ أنني أمام مغارة علي بابا التي تفيض بكنوز لا نهاية لها ولا يمنعني عنها إلا كلمة سرٍ مجهولة، وكان أقصى أحلامي إيجاد طريقةٍ لاجتياز هذا الباب والوصول إلى تلك الكُتُب.
ذات يوم انطلَقَت المُعجزة من صندوق أُمنياتي لتتحقق، كان باب مغارة علي بابا مفتوحًا والكنوز تتلألأ بعناوينها المُغرية للغارقين في عشق القراءة مثلي، وليمةٌ شهيةٌ للعقل والقلب وكل خلية ظمأى للمعرفة، فما كان مني إلا أن ألقيتُ بنفسي على هذه الفرصة لانتهازها وملء بصري بأغلفة تلك الكتب وأنفاسي برائحتها، وإذا بسيّد المكتبة يضبطني مُتلبسةً بانقيادي لوساوس النفس الأمَّارة بالقراءة، لكن من حُسن حظي أنهُ كان كريمًا مُتفهمًا، فتلقَّى بابتسامةٍ عريضةٍ شغفي الواضح وأنا أقول: «مكتبتك تُشبه مغارة علي بابا المليئة بالكنوز النادرة يا دكتور.. بل تُشبهُ مصباح علاء الدين القادر على تحقيق كل الأحلام!»، ولم يكُن من الصعب على الأديب الذي تدحرَجَ في عشق مُطالعة الكتب منذ طفولته أن يفهم هذه الحالة، فتلك السعادة الغامرة التي كانت تحتل كل تفاصيل كيانه أمام كتُب «مكتبة الماحوزي» في المنامة خلال مرحلة مُبكرة من حياته لا تُنسى، وتلك السويعات المُبهجة التي يقضيها مع كتابٍ مُمتع على شاطئ البحر في طفولته مازالت تستعمر كيانه، أما الأوقات التي كان يكسر فيها حصَّالته ليكتشف أن ما يملكه من مال لا يكفي لاقتناء كتابٍ كان يتوق إليه فقد كانت -بالنسبة له- باعثةً على الجنون!
الطفلُ الذي كان ينسخُ كل القصائد من كتاب منهاج الصف الثالث الابتدائي ويرسم الصور التي فوقها، ثم يُلصقها على جُدران الغرفة التي ينام فيها كي تكون برفقته خلال أحلامه كما تُرافقه خلال يقظته وُلِد بتلك الروح الشاعريَّة التي صنعَت منهُ أديبًا مُبدعًا، وأستاذًا لا ينساه تلاميذه، وانسانًا مُجتهدًا لا حدود لطموحاته، ومُثقفًا بحرينيًا رائعًا يبذل أقصى ما بوسعه لإشعال شمعة تنير أي دربٍ ثقافي يجتازه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك