العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الثقافي

سـرديـات: من متاحف السير الذاتية!

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ٢٧ يناير ٢٠٢٤ - 02:00

الطبيب‭ ‬وعالم‭ ‬النفس‭ ‬النمساويّ‭ ‬سيغموند‭ ‬فرويد‭ (‬6‭ ‬مايو‭ ‬1856‭-‬23‭ ‬سبتمبر‭ ‬1939‭) ‬هو‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المفكرين‭ ‬المائة‭ ‬الذين‭ ‬أعادوا‭ ‬صياغة‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنسانيّ‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬وقد‭ ‬نختلف‭ ‬مع‭ ‬أطروحات‭ ‬فرويد،‭ ‬وقد‭ ‬نفكّكها‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬علماء‭ ‬نفس‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬البنيوية‭ ‬مثل‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬جاك‭ ‬لاكان‭ ‬والبلغارية‭ ‬الفرنسية‭ ‬جوليا‭ ‬كريستيفا،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تظلُّ‭ ‬أطروحاته‭ ‬العلميّة‭ ‬جاذبة‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬ويظلُّ‭ ‬كتابه‭ (‬تفسير‭ ‬الأحلام‭) ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬التأسيسيّة‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬لكلِّ‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬أن‭ ‬يقرأه‭ ‬بدقة‭ ‬بالغة‭ ‬وبتأمل‭ ‬جميل‭.‬

من‭ ‬المتاحف‭ ‬الاستثنائيّة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬عالقة‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬زيارتي‭ ‬قبل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬لمتحف‭ ‬سيغموند‭ ‬فرويد‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬لندن،‭ ‬ومن‭ ‬طقوسي‭ ‬الخاصة‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬السياحات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬كلَّ‭ ‬شيء‭ ‬أستطيع‭ ‬التوصّل‭ ‬إليه‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الشخصية‭ ‬وتاريخ‭ ‬المكان،‭ ‬وأن‭ ‬أقتطع‭ ‬مساحة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬وقتي‭ ‬للمكوث‭ ‬لمدة‭ ‬ساعات‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المتاحف‭ ‬كي‭ ‬أستوعب‭ ‬بعمق‭ ‬روح‭ ‬المكان‭ ‬فأنا‭ ‬أكره‭ ‬الزيارات‭ ‬العابرة‭ ‬الخاطفة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تليق‭ ‬بتواريخ‭ ‬هذه‭ ‬الفضاءات‭ ‬الاستثنائيّة‭. ‬ومتحف‭ ‬سيغموند‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬المتاحف‭ ‬العالميّة‭ ‬لندن‭ ‬هو‭ ‬بيته‭ ‬الذي‭ ‬مكث‭ ‬فيه‭ ‬عاماً‭ ‬واحداً‭ ‬فقط‭ (‬من‭ ‬27‭ ‬سبتمبر‭ ‬1938‭-‬23‭ ‬سبتمبر‭ ‬1939،‭ ‬وبعد‭ ‬وفاة‭ ‬ابنته‭ ‬آنا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1982‭ ‬تحوَّل‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬الإنجليزي‭ ‬ذي‭ ‬الطراز‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬إلى‭ ‬متحف‭ ‬يضمُّ‭ ‬معظم‭ ‬مقتنيات‭ ‬فرويد‭ ‬من‭ ‬مكتبته‭ ‬ومخطوطاته‭ ‬ووثائقه‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أثاثه‭ ‬الذي‭ ‬نقله‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬فيينا‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭. ‬ومتحف‭ ‬فرويد‭ ‬يسرد‭ ‬قصة‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي،‭ ‬وهي‭ ‬المدرسة‭ ‬الإشكالية‭ ‬التي‭ ‬ابتكرها‭ ‬فرويد‭ ‬من‭ ‬النشأة‭ ‬والتحولات،‭ ‬كما‭ ‬ستلفت‭ ‬انتباهكم‭ ‬مجموعة‭ ‬أرشيفية‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬الدورية‭ ‬العالمية‭ ‬للتحليل‭ ‬النفسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فرويد‭ ‬مؤسسها،‭ ‬وستلفت‭ ‬انتباهكم‭ ‬كذلك‭ ‬مجموعته‭ ‬الضخمة‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬القديمة‭ ‬خاصة‭ ‬الآثار‭ ‬الفرعونية‭ ‬القديمة،‭ ‬وهي‭ ‬مقتنياته‭ ‬الشخصية‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬متحف‭ ‬فرويد‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬النمساوية‭ ‬فيينا،‭ ‬وهو‭ ‬المتحف‭ ‬الذي‭ ‬تأسس‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1971‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬متحف‭ ‬لندن‭ ‬هو‭ ‬الأهم‭ ‬لاشتماله‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬إرث‭ ‬فرويد‭ ‬الفكري‭ ‬والمادي‭ ‬بعد‭ ‬هروبه‭ ‬من‭ ‬فيينا‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬اعتقال‭ ‬الشرطة‭ ‬السرية‭ ‬النازية‭.‬

وبعد‭ ‬مرور‭ ‬حوالي‭ ‬عقدين‭ ‬على‭ ‬وفاة‭ ‬سيجموند‭ ‬فرويد‭ ‬اشتغل‭ ‬الأكاديميّ‭ ‬بول‭ ‬روزن‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬فرويد‭ ‬بالتحديد‭ ‬لمدة‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬سيرة‭ ‬غير‭ ‬مؤدلجة‭ ‬للطبيب‭ ‬والمحلل‭ ‬النمساويّ‭ ‬سيجموند‭ ‬فرويد؛‭ ‬وهي‭ ‬سيرة‭ ‬تتسم‭ ‬بالصرامة‭ ‬المنهجية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أرشفة‭ ‬توثيقيّة‭ ‬تضمّنت‭ ‬مائة‭ ‬وعشر‭ ‬مقابلات‭ ‬شفهيّة‭ ‬وموثّقة‭ ‬لعائلة‭ ‬فرويد‭ ‬وأصدقائه‭ ‬والدائرة‭ ‬المحيطة‭ ‬به‭ ‬أجراها‭ ‬المؤلف،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬مقابلات‭ ‬مسجَّلة‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬مرضى‭ ‬فرويد‭ ‬الذين‭ ‬بلغوا‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬عتيًا‭. ‬لقد‭ ‬أراد‭ ‬روزن‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬المتلقي‭ ‬أيّنما‭ ‬كان‭ ‬أمام‭ ‬‮«‬المتن‭ ‬الفرويديّ‮»‬‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الهوامش‭ ‬التي‭ ‬تضخَّمت‭ ‬حول‭ ‬فرويد‭ ‬وحياته‭ ‬وأفكاره‭ ‬الخلافيّة‭!‬

وبعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الهوامش‭ ‬والأساطير‭ ‬المؤسِّسة‭ ‬التي‭ ‬حِيكت‭ ‬حول‭ ‬شخصية‭ ‬فرويد‭ ‬فإن‭ ‬بول‭ ‬روزن‭ ‬استطاع‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬أن‭ ‬يكشف‭ ‬الأوجه‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتناقضة‭ ‬ربَّما‭ ‬لشخصية‭ ‬واحدة‭: ‬فرويد‭ ‬المغامر‭ ‬والجريء،‭ ‬والثوري‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس،‭ ‬ورجل‭ ‬العلم‭ ‬الحذر‭ ‬والمطوِّر‭ ‬أسلوبه،‭ ‬والفيلسوف‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬والمعلم‭ ‬والمعالج‭ ‬المجتهد،‭ ‬والبورجوازي‭ ‬النبيل‭ ‬المثقل‭ ‬كاهله‭ ‬بكثرة‭ ‬أعباء‭ ‬حياته‭ ‬اليومية،‭ ‬والمحاور‭ ‬البارع،‭ ‬والعقلاني‭ ‬واللاعقلاني‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معًا‭. ‬لقد‭ ‬أفصحت‭ ‬كتابات‭ ‬فرويد‭ ‬عن‭ ‬إحساس‭ ‬بالتضخم‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬فرويد‭ ‬ومركزية‭ ‬الأنا‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬قارن‭ ‬فيه‭ ‬فرويد‭ ‬منجزه‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬بعمل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تشارلز‭ ‬داروين‭ ‬وكوبرنيكوس‭. ‬ولكن‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬الشخصية‭ ‬التمجيدية‭ ‬رأى‭ ‬أتباع‭ ‬فرويد‭ ‬فيه‭ ‬إنسانًا‭ ‬بسيطًا‭ ‬خجولاً‭ ‬لا‭ ‬يتعمد‭ ‬أن‭ ‬يحيط‭ ‬نفسه‭ ‬بهالة‭ ‬من‭ ‬العظمة،‭ ‬فالإعجاب‭ ‬يحرجه‭ ‬أحيانًا‭! ‬حاول‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والنقاد‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬امتلاك‭ ‬‮«‬المتن‭ ‬الفرويدي‮»‬،‭ ‬وامتلاك‭ ‬تأويل‭ ‬واحد‭ ‬له؛‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬المتن‮»‬‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يُقرأ‭ ‬فعلاً‭ ‬في‭ ‬سياقاته‭ ‬التي‭ ‬أنتجته‭ ‬معرفيًا‭ ‬وإنسانيًا‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬زيارة‭ ‬متحفه‭ ‬الذي‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬المخبوءة‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬كتاباته‭ ‬ومقتنياته‭ ‬واختياراته‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬ذائقته‭ ‬الفكرية‭ ‬والجمالية‭ ‬الثقافيّة‭!‬

 

{ أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا