الطبيب وعالم النفس النمساويّ سيغموند فرويد (6 مايو 1856-23 سبتمبر 1939) هو واحد من أهم المفكرين المائة الذين أعادوا صياغة التاريخ الإنسانيّ في القرن العشرين. وقد نختلف مع أطروحات فرويد، وقد نفكّكها كما فعل بعد ذلك علماء نفس في مرحلة ما بعد البنيوية مثل الفرنسيّ جاك لاكان والبلغارية الفرنسية جوليا كريستيفا، ولكن على الرغم من ذلك تظلُّ أطروحاته العلميّة جاذبة إلى الآن، ويظلُّ كتابه (تفسير الأحلام) من الكتب التأسيسيّة التي ينبغي لكلِّ واحد منا أن يقرأه بدقة بالغة وبتأمل جميل.
من المتاحف الاستثنائيّة التي لا تزال عالقة في ذاكرتي زيارتي قبل بضع سنوات لمتحف سيغموند فرويد الواقع في شمال لندن، ومن طقوسي الخاصة قبل هذه السياحات الثقافيّة أن أقرأ كلَّ شيء أستطيع التوصّل إليه عن تاريخ الشخصية وتاريخ المكان، وأن أقتطع مساحة كبيرة من وقتي للمكوث لمدة ساعات طويلة في هذه المتاحف كي أستوعب بعمق روح المكان فأنا أكره الزيارات العابرة الخاطفة التي لا تليق بتواريخ هذه الفضاءات الاستثنائيّة. ومتحف سيغموند فرويد في عاصمة المتاحف العالميّة لندن هو بيته الذي مكث فيه عاماً واحداً فقط (من 27 سبتمبر 1938-23 سبتمبر 1939، وبعد وفاة ابنته آنا في عام 1982 تحوَّل هذا البيت الإنجليزي ذي الطراز الكلاسيكي إلى متحف يضمُّ معظم مقتنيات فرويد من مكتبته ومخطوطاته ووثائقه إلى جانب أثاثه الذي نقله معه من فيينا إلى لندن. ومتحف فرويد يسرد قصة التحليل النفسي، وهي المدرسة الإشكالية التي ابتكرها فرويد من النشأة والتحولات، كما ستلفت انتباهكم مجموعة أرشيفية ضخمة من الدورية العالمية للتحليل النفسي الذي كان فرويد مؤسسها، وستلفت انتباهكم كذلك مجموعته الضخمة من الآثار القديمة خاصة الآثار الفرعونية القديمة، وهي مقتنياته الشخصية. وعلى الرغم من وجود متحف فرويد في العاصمة النمساوية فيينا، وهو المتحف الذي تأسس في عام 1971 إلا أنَّ متحف لندن هو الأهم لاشتماله على معظم إرث فرويد الفكري والمادي بعد هروبه من فيينا خوفًا من اعتقال الشرطة السرية النازية.
وبعد مرور حوالي عقدين على وفاة سيجموند فرويد اشتغل الأكاديميّ بول روزن المتخصص في فرويد بالتحديد لمدة سنوات على كتابة سيرة غير مؤدلجة للطبيب والمحلل النمساويّ سيجموند فرويد؛ وهي سيرة تتسم بالصرامة المنهجية من خلال أرشفة توثيقيّة تضمّنت مائة وعشر مقابلات شفهيّة وموثّقة لعائلة فرويد وأصدقائه والدائرة المحيطة به أجراها المؤلف، وصولاً إلى مقابلات مسجَّلة مع من تبقى من مرضى فرويد الذين بلغوا من العمر عتيًا. لقد أراد روزن أن يضع المتلقي أيّنما كان أمام «المتن الفرويديّ» بعيدًا عن الهوامش التي تضخَّمت حول فرويد وحياته وأفكاره الخلافيّة!
وبعيدًا عن الهوامش والأساطير المؤسِّسة التي حِيكت حول شخصية فرويد فإن بول روزن استطاع في مؤلفه أن يكشف الأوجه المختلفة والمتناقضة ربَّما لشخصية واحدة: فرويد المغامر والجريء، والثوري في علم النفس، ورجل العلم الحذر والمطوِّر أسلوبه، والفيلسوف الاجتماعي، والمعلم والمعالج المجتهد، والبورجوازي النبيل المثقل كاهله بكثرة أعباء حياته اليومية، والمحاور البارع، والعقلاني واللاعقلاني في آن معًا. لقد أفصحت كتابات فرويد عن إحساس بالتضخم في شخصية فرويد ومركزية الأنا إلى الحد الذي قارن فيه فرويد منجزه في التحليل النفسي بعمل كل من تشارلز داروين وكوبرنيكوس. ولكن بعيدًا عن هذه الأسطورة الشخصية التمجيدية رأى أتباع فرويد فيه إنسانًا بسيطًا خجولاً لا يتعمد أن يحيط نفسه بهالة من العظمة، فالإعجاب يحرجه أحيانًا! حاول عدد كبير من الباحثين والنقاد حول العالم امتلاك «المتن الفرويدي»، وامتلاك تأويل واحد له؛ في حين أنَّ هذا «المتن» لابد أن يُقرأ فعلاً في سياقاته التي أنتجته معرفيًا وإنسانيًا بما في ذلك زيارة متحفه الذي يكشف عن سيرته الذاتية المخبوءة في ثنايا كتاباته ومقتنياته واختياراته التي تكشف ذائقته الفكرية والجمالية الثقافيّة!
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك