العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الثقافي

قصة قصيرة : أفياء النبض

السبت ٠٣ فبراير ٢٠٢٤ - 02:00

‭-‬هذا‭ ‬المساء‭..‬‮ ‬لن‭ ‬يتكئ‭ ‬قلبي‭ ‬على‭ ‬شتات‭ ‬طيفك‭ ‬مطلقا‭.. ‬وسأقود‭ ‬نبضاتك‭ ‬المواربة‭ ‬نحو‭ ‬التلاشي‭!‬

‭-‬كفاك‭ ‬يا‭ ‬فتاة‭! ‬رفقا‭ ‬بهذا‭ ‬الرجل‭!‬‮ ‬

‭ ‬أي‭ ‬رفق‭ ‬يا‭ ‬أمي؟‭ ‬شهر‭ ‬لم‭ ‬أره‭.. ‬ولم‭ ‬يجرِ‭ ‬معي‭ ‬أية‭ ‬مكالمة‭ ‬هاتفية‭! ‬سأتركه‭ ‬وأمضي‭.‬

‭-‬حسناً‭.. ‬اهدئي،‭ ‬رفقاً‭ ‬بما‭ ‬أودعه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أحشائك‭.‬

تنتصب‭ ‬الذكرى‭ ‬أمام‭ ‬أسى‭ ‬غيابك‭.. ‬عيناي‭ ‬تجولان‭ ‬في‭ ‬رسائل‭ ‬بعثتها‭ ‬لك‭ ‬قبل‭ ‬خمسة‭ ‬أعوام‭ ‬ونيف‭ ‬أقرؤها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حين‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬جرعة‭ ‬كراهية‭ ‬من‭ ‬قلبي‭ ‬تجاهك‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭. ‬أقسمت‭ ‬بأني‭ ‬سأقود‭ ‬نبضك‭ ‬نحو‭ ‬التلاشي‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬كلمات‭ ‬أرسلتها‭ ‬لك‭ ‬هاتفيا‭.. ‬لكنك‭ ‬فعلتها‭ ‬بنبضي‭ ‬مسبقاً‭.‬‮ ‬أقذف‭ ‬هاتفي‭ ‬بعيدا‭ ‬فيتحطم،‭ ‬وتلامس‭ ‬يداي‭ ‬صورتك‭ ‬المعلقة‭ ‬على‭ ‬الجدار‭: ‬كم‭ ‬تبدو‭ ‬وسيما‭ ‬بقميصك‭ ‬الأبيض‭ ‬الملطخ‭ ‬بكعك‭ ‬عيد‭ ‬الميلاد‭ ‬العاشر‭ ‬لطفلتنا‭ ‬رانا‭.. ‬أما‭ ‬زلت‭ ‬جميلا‭ ‬كما‭ ‬عهدتك؟‭ ‬أم‭ ‬غيّرت‭ ‬الحرب‭ ‬قسماتك‭ ‬وصبغت‭ ‬بياض‭ ‬ردائك‭ ‬بلون‭ ‬آخر‭ ‬يليق‭ ‬بجنائزيتها؟

‭ ‬ماذا‭ ‬دهاك؟‭! ‬وما‭ ‬تنوين‭ ‬فعله؟

‭ ‬أتيت‭ ‬للتو؟‭ ‬لا‭ ‬تقلقي‭ ‬أمي‭.. ‬فالهاتف‭ ‬انزلق‭ ‬من‭ ‬يدي‭.. ‬سأفرغ‭ ‬غرفتها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أشيائه‭.‬

‭ ‬اغلقيها‭ ‬فحسب‭.. ‬ستعود‭ ‬حتما‭ ‬لأخذ‭ ‬متعلقات‭ ‬والدها‭. ‬ألن‭ ‬تحتفي‭ ‬بميلادها‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين؟

‮ ‬رفضت‭ ‬دعوتي‭ ‬لقدومها‭ ‬اليوم‭ ‬للمنزل‭ ‬وستحط‭ ‬طائرتها‭ ‬بعد‭ ‬الغد‭ ‬في‭ ‬العراق‭. ‬لن‭ ‬تعود‭.. ‬ليس‭ ‬بعد‭ ‬انضمامها‭ ‬لتلك‭ ‬المنظمة‭ ‬الحقوقية‭ ‬الدولية‭ ‬الراعية‭ ‬لضحايا‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭.‬

بمهل‭ ‬تتحرك‭ ‬سيارتي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬مضطرب‭ ‬بأصوات‭ ‬غاضبة‭ ‬لحشود‭ ‬تجوب‭ ‬واشنطن‭ ‬مطالبة‭ ‬بإنهاء‭ ‬حرب‭ ‬العراق‭ ‬التي‭ ‬فور‭ ‬شنها‭ ‬انخرطت‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬المظاهرات‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬الداعية‭ ‬للسلام‭ ‬وإيقاف‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬في‭ ‬بلدك‭ -‬الجريح‭- ‬كما‭ ‬لقبته‭ ‬دائما‭. ‬لم‭ ‬ألك‭ ‬انهماكك‭ ‬في‭ ‬النشاط‭ ‬السياسي‭ ‬كليا؛‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬تعود‭ ‬للمنزل‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬متأخرة‭ ‬تقبّل‭ ‬رانا،‭ ‬تتجاهلني،‭ ‬ثم‭ ‬تخلد‭ ‬للنوم‭! ‬لعل‭ ‬رفضي‭ ‬الاستقالة‭ ‬من‭ ‬عملي‭ ‬كمحررة‭ ‬للشؤون‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬ناصرت‭ ‬الحرب‭ ‬جعلك‭ ‬تراني‭ ‬انعكاسا‭ ‬لمطلق‭ ‬النار‭! ‬غير‭ ‬أن‭ ‬جلّ‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬لم‭ ‬يتصل‭ ‬إلا‭ ‬بالهم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الأمريكي‭. ‬

أنهينا‭ ‬أشهرًا‭ ‬من‭ ‬الشجارات‭ ‬المستعرة‭ ‬بيننا‭ ‬بقرار‭ ‬عودتك‭ ‬كمراسل‭ ‬حربي‭ ‬للعراق‭. ‬ظننت‭ ‬أن‭ ‬تلقّيك‭ ‬نبأ‭ ‬حملي‭ ‬سيعيد‭ ‬علاقتنا‭ ‬إلى‭ ‬نصابها‭ ‬لكنك‭ ‬اكتفيت‭ ‬بالقول‭:‬

‭-‬خدعة‭ ‬جيدة‭ ‬لن‭ ‬تثنيني‭ ‬عن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بلادي‭ ‬العراق‭.‬

حريّ‭ ‬بالحب‭ ‬العبور‭ ‬بنا‭ ‬من‭ ‬قارعة‭ ‬الحرب‭ ‬نحو‭ ‬شرفة‭ ‬وصل‭ ‬تحكم‭ ‬قبضتها‭ ‬على‭ ‬لهيب‭ ‬الفراق‭. ‬حريّ‭ ‬بالعشاق‭ ‬ألا‭ ‬يتذرعوا‭ ‬بمعارك‭ ‬سياسية‭ ‬عبثية‭ ‬تبدد‭ ‬الشعوب‭ ‬دما‭ ‬وتيها‭ ‬لإفلات‭ ‬الأيدي‭. ‬مضى‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬القلب‭ ‬شهرٌ‭ ‬كاملٌ‭ ‬تجرّعته‭ ‬بترقّب‭ ‬ردك‭ ‬على‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬رسائلي‭. ‬غير‭ ‬أنك‭ ‬نفيتها‭ ‬إلى‭ ‬بريد‭ ‬التجاهل‭ ‬ولم‭ ‬تجرِ‭ ‬معي‭ ‬أية‭ ‬مكالمة‭ ‬هاتفية‭! ‬ومرارا‭ ‬ارتطم‭ ‬انتظاري‭ ‬بالوجد‭ ‬والطمأنينة‭ ‬بعد‭ ‬ظهورك‭ ‬على‭ ‬شاشات‭ ‬التلفاز‭ ‬سالما‭ ‬في‭ ‬تغطيات‭ ‬حربية‭ ‬عكفت‭ ‬على‭ ‬متابعتها‭.‬

ألمح‭ ‬رانا‭ ‬تخترق‭ ‬صفوف‭ ‬المحتجين‭ ‬وتلتقط‭ ‬صورًا‭ ‬للمسير‭ ‬بكاميرا‭ ‬أهديتها‭ ‬إياها‭ ‬قبل‭ ‬رحيلك‭. ‬لا‭ ‬أخفي‭ ‬عليك‭ ‬شعوري‭ ‬بالرعب‭ ‬والقشعريرة‭ ‬فلوهلة‭ ‬حسبتها‭ ‬أنت‭! ‬أواه‭! ‬كم‭ ‬تشبهك‭ ‬كثيرا‭ ‬وتتقاطع‭ ‬معك‭ ‬في‭ ‬التصميم‭ ‬والتعطش‭ ‬للحقيقة‭. ‬بوسعي‭ ‬رؤيتها‭ ‬الآن‭ ‬تركز‭ ‬بصرها‭ ‬بذهول‭ ‬ساخر‭ ‬على‭ ‬عبارة‭ ‬اللافتة‭ ‬التي‭ ‬أرفعها‭:‬

‭-‬عام‭ ‬سعيد‭ ‬رانا‭.. ‬ماما‭ ‬تنتظرك‭ ‬في‭ ‬السيارة‭ ‬عند‭ ‬زاوية‭ ‬الطريق‭ ‬ولن‭ ‬تغادر‭ ‬إلا‭ ‬برفقتك‭.. ‬أعدك‭ ‬سنقضي‭ ‬وقتا‭ ‬عائليا‭ ‬ممتعا‭ ‬دون‭ ‬جدال‭.‬

أترقبها‭ ‬بصمت‭ ‬مقاومة‭ ‬تلك‭ ‬الصرخات‭ ‬التي‭ ‬تتشظى‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬توقعني‭ ‬في‭ ‬كمين‭ ‬الذكريات‭.. ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬ينوي‭ ‬ابتلاعي‭ ‬برصيفه‭ ‬الذي‭ ‬شهد‭ ‬تعرضي‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬لحادث‭ ‬مروع‭ ‬أفقدني‭ ‬طفلي‭.. ‬كم‭ ‬أملت‭ ‬وقتذاك‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بجانبي‭ ‬لتطفئ‭ ‬توقي‭ ‬إليك‭ ‬وتركن‭ ‬لحب‭ ‬تكبر‭ ‬طفلتنا‭ ‬رانا‭ ‬بين‭ ‬أفيائه‭. ‬بقيت‭ ‬طريحة‭ ‬الفراش‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬شهرين‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬منعني‭ ‬الأطباء‭ ‬من‭ ‬مغادرتها؛‭ ‬قلبي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬جيد‭. ‬آنذاك‭ ‬أفاقني‭ ‬صوتك‭ ‬المبحوح‭ ‬بالبكاء‭.. ‬حسبتك‭ ‬خيالا‭ ‬يداعب‭ ‬أشواقي‭ ‬فأسدلت‭ ‬جفني‭.‬

‭ ‬أنا‭ ‬هنا‭ ‬يا‭ ‬سارة‭.‬

‭ ‬أحمد‭.. ‬ظننتك‭ ‬هجرتنا‭.. ‬لا‭ ‬تغادر‭ ‬وتتركنا‭ ‬أبداً‭.‬

دنوت‭ ‬مني‭ ‬وعانقتني‭.‬

‭ ‬تعافي‭ ‬أرجوك‭.. ‬جئتك‭ ‬للوداع‭ ‬الأخير‭.. ‬سأقيم‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬لمواصلة‭ ‬نضالي‭ ‬الإعلامي‭.‬

‮ ‬‭ ‬أحبك‭ ‬جداً‭. ‬اعتنِ‭ ‬بنفسك‭ ‬وبرانا‭ ‬جيداً‭.‬

ثم‭ ‬ناءت‭ ‬ظلالك‭ ‬لواد‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الغياب‭ ‬وجهة‭ ‬امتداده‭. ‬نتحلق‭ ‬حول‭ ‬كعكة‭ ‬الميلاد‭ ‬التي‭ ‬أعدتها‭ ‬أمي‭ ‬فتطفئ‭ ‬رانا‭ ‬شمعتها‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنها‭ ‬تمنت‭ ‬ثانية‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مراسلة‭ ‬حربية‭ ‬كأبيها‭. ‬لطالما‭ ‬طوقت‭ ‬ميولها‭ ‬السياسية‭ ‬وقمعت‭ ‬مساعيها‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬التطوعي‭ ‬لعواصم‭ ‬الحروب‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬سأجسر‭ ‬على‭ ‬خسارتها‭ ‬والارتهان‭ ‬للفقد‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬آثرت‭ ‬رانا‭ ‬ترك‭ ‬المنزل‭ ‬فور‭ ‬بلوغها‭ ‬سن‭ ‬الثامنة‭ ‬عشر‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬معي‭ ‬فرارًا‭ ‬من‭ ‬قسوتي‭ ‬المفرطة‭ ‬ضد‭ ‬خياراتها‭..‬‮ ‬يومها‭ ‬هوت‭ ‬مدخرات‭ ‬غضبي‭ ‬بأصابعي‭ ‬على‭ ‬وجنتيها‭ ‬لقولها‭: ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬أبي‭ ‬هجرنا‭ ‬بسبب‭ ‬هوسك‭ ‬بالتملك‭ ‬والسيطرة‭!‬

نفرغ‭ ‬من‭ ‬احتساء‭ ‬نخب‭ ‬الحفل‭ ‬ونتلو‭ ‬صلوات‭ ‬الحب‭. ‬تلكزني‭ ‬المخاوف‭ ‬فأبكي‭! ‬أدرك‭ ‬أنها‭ ‬ستسافر‭ ‬لتعقّبك،‭ ‬ولربما‭ ‬لن‭ ‬تعود‭. ‬وحدها‭ ‬الدموع‭ ‬من‭ ‬تبارك‭ ‬عناقنا‭. ‬تربت‭ ‬أمي‭ ‬على‭ ‬كتفي‭ ‬وتطلب‭ ‬من‭ ‬رانا‭ ‬قراءة‭ ‬رسالة‭ ‬بدت‭ ‬مكتوبة‭ ‬بخط‭ ‬يديك‭:‬

‭(‬حبيبتي‭.. ‬سأمضي‭ ‬نحو‭ ‬حياة‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬شيئا‭ ‬عن‭ ‬مداراتها‭.. ‬العراق‭ ‬وأنت‭ ‬وطناي‭.. ‬وجدت‭ ‬أخيرا‭ ‬السبيل‭ ‬لاقتسام‭ ‬دفئكما‭.. ‬جسدي‭ ‬سيوارى‭ ‬الثرى‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وقلبي‭ ‬ستحتوينه‭! ‬أعلمني‭ ‬الأطباء‭ ‬بحاجتك‭ ‬لقلب‭ ‬فوهبتك‭ ‬نبضي‭.. ‬أحبك‭ ‬سارة‭. ‬اعتنِ‭ ‬برانا‭ ‬وبنبضي‭ ‬جيدا‭. ‬ولا‭ ‬تقوديه‭ ‬أبدا‭ ‬نحو‭ ‬التلاشي‭).‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا