هو الفقد الذي يتفنن في إيجاع القلوب وإيذائها، هو الحد الذي يفصل بين الناس جسديا، ولكن يبقون في اللقيا محملين بفروض المحبة والمودة، سيذكر الجميع فقيدنا الراحل الكبير الأستاذ عبدالله السعداوي مكارم أخلاقه، وحلو سجاياه، وبياض قلبه النابض عشقا للإنسانية جميعا.
لن أتحدث إلا عن سخائه الفكري والفني في هذا النعي الحزين، فهو يعد أبرز المسرحيين العرب، وما إن يذكر السعداوي وخصوصا في مصر المحروسة، إلا واشرأبت إلى ذكره الأعناق، وتسلل اسمه همسا وجهرا لصولاته وجولاته في المهرجان التجريبي، فهو الحائز أفضل إخراج في هذا المهرجان التخصصي العتيد عن مسرحيته الشهيرة (الكمامة)، وغيرها من الجوائز والاحتفاءات به.
فهو تعبّد في محراب المسرح، وكان الكاهن فيه، لا يبارحه في كل أوقاته، ليس لافتتان مؤقت وهواية منصرمة، بل لغواية متغلغلة في أعماقه، وذلك لارتباط المسرح بالوجع الإنساني، والهم الكوني؛ ولذلك كان عنوان كتابه الرائع (المسرح.. قلب الإنسانية المشترك)، فالمسرح عند السعداوي وعي وأسئلة، والمسرح عنده صمت وبوح، وسكون وحركة، وما أجمله في تشبيهه الصمت بالوردة التي تكلم عطرها عنها، وليس من الصدفة أن يكون (ذا كمامة) مرة و(حلاجا) مرة أخرى و(حكواتيا) صامتا أيضا، فهذه المفارقات المتصادمة تعبر عن انحياز لمسرح آخر، يدعو إلى مسرح إبداعي يؤدي إلى الخلود والبقاء، ولذا نراه في حركة تجريبية دائمة يذهب بها إلى المختلف الذي يحايث الإنسانية وعذاباتها وفق رؤية فلسفية وفكرية وبصيرة متقدة بقي يبحث عنها، ويفتش عن مخابئها بحثا ودراسة.
كان قارئا نهما واعيا، يمتلك معرفة موسوعية فريدة بالمسرح ونظرياته وفلسفاته ورجالاته، لا يستهين بما يقع في يديه من مصادر معرفية، وهذا يظهر بجلاء حينما يتداخل في اللقاءات والندوات والمؤتمرات؛ حيث نستمع إلى مداخلات عميقة جدا منطلقة من فكر رصين، ومعرفة واسعة بما يتحدث عنها، وليس استعراضا جدليا أجوف، بل رؤية منطلقة من خبرات متراكمة منبثقة من قراءات متتابعة، وممارسات وانشغالات مسرحية سواء كانت مختبرية أم بروفات أم عروضا، فهو ممثل لا يشق له غبار، ومخرج متمايز، ومؤلف نصوص مسرحية متقدم كما هي مجموعته (جرينمو) التي أرجو أن تنال النشر قريبا، وكاتب متعمق في الفكر المسرحي، ولذا هو قدم زادا مسرحيا ثريا وتجارب غنية.
لقد خرّج الراحل العزيز من مدرسته المسرحية عددا كبيرا من الفنانين المسرحيين تمثيلا وإخراجا وتنظيرا أيضا؛ ولذلك يعد مسرح الصواري الذي يقضي فيه السعداوي جلّ أوقاته بيتا لمنهج مسرحي تجريبي مغاير، زرع بذوره وسقاها السعداوي بفكره ووعيه وروحه الإنسانية المتقدة حبا وجمالا، يستقطب التجارب الشبابية، ويدافع عنها بقوة، حيث هم الأمل المعقود في مسرح بحريني عربي ناهض، إذ دخلت معه في نقاش جميل في ذات لقاء حول تجارب الشباب الفنية، فكان منافحا عنهم، رافضا الوصاية عليهم فيما ينتهجون، بل ذهب بعيدا في رأيه – ربما كان مناكفا – بأنهم ليسوا بحاجة إلى نماذج تأسيسية، أو بنيات تقليدية، وإنما عليهم أن يبدأوا بتجاربهم وعرضها، كيفما شاءوا، فجيل اليوم مختلف في كل شيء عن جيلنا، إذ يمتلكون مهارات وثقافة تختلف عن جيلنا، فلذلك ليسوا هم في حاجة إلى قراءة شكسبير وسوفوكليس ويونسكو وتشيخوف وإبسن أو توفيق الحكيم والشرقاوي وصلاح عبدالصبور وغيرهم، بل يخوضون تجاربهم وفق رؤيتهم الذاتية.
وأذكر أني تشرفت أن أكون رئيسا لجلسة فكرية لأحد مؤتمرات اتحاد المسرحيين البحرينيين، وكان المرحوم والأستاذ جمعان الرويعي ضيفيْ الجلسة، فقدم الراحل الكبير ورقة (مداخلة) فكرية غير مكتوبة حول الأداء الجسدي، وتقنياته في المسرح، فما ترى إلا بحرا زاخرا من العلم والنظريات والاستشهادات الارتجالية بأقوال كبار المسرحيين العالميين التي لا تنم عن اطلاع واسع فحسب، بل تدل على وعي عميق وشامل بما يؤمن ويرى، يأخذ بكل مكونات العرض المسرحي من نص وأداء تمثيلي البعيد عن (الثرثرة)، ورؤية إخراجية إبداعية، وسينوغرافيا وظيفية متماهية مع البعد التمثيلي بما تحقق مشهدية في فضاء مسرحي مختلف.
إن فقيدنا باق في قلوبنا وفكرنا، وإن صمت على الخشبة في بعض أدواره، فلن يصمت بعد اليوم، وهو من ترك لنا إرثا غنيا في كتب ومقالات ومجموعات مسرحية وتلاميذ ينتهجون مساره، أرجو أن تنال تجربته المسرحية بكل أبعادها دراسات وبحوثا أكاديمية ولقاءات ومؤتمرات تناقش فنه وفكره.
رحم الله فقيدنا الكبير أستاذنا وملهمنا ومعلمنا الفنان المبدع الخلوق الإنسان الأستاذ عبدالله السعداوي، وأسكنه الفردوس الأعلى وأغدق عليه من رحمته ورأفته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك