العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الثقافي

سـرديـات: الاستشراق الجديد

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ١٠ فبراير ٢٠٢٤ - 02:00

يمثل‭ ‬المستعرب‭ ‬الفرنسي‭ ‬آندريه‭ ‬ميكيل‭ (‬1929-2022‭) ‬آخر‭ ‬المستعربين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬المؤثِّرين‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬القديم،‭ ‬وميكيل‭ ‬مؤرِّخ‭ ‬ومستعرب‭ ‬فرنسيّ‭ ‬مغاير‭ ‬ومتخصص‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬العربيّ‭ ‬الكلاسيكيّ‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنَّ‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الغربيين‭ ‬المختصين‭ ‬صنفوه‭ ‬ضمن‭ ‬مدرسة‭ ‬الحوليات‭ ‬التاريخيّة‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬Annales‭)). ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬التصنيفيّة‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬ميكيل‭ ‬عصي‭ ‬على‭ ‬مجرد‭ ‬حصره‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬أو‭ ‬اتجاه‭ ‬منهجي‭ ‬معين‭. ‬شغل‭ ‬ميكيل‭ ‬منصب‭ ‬مدير‭ ‬معهد‭ ‬لغات‭ ‬الهند‭ ‬والشرق‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬وحضاراتها‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬باريس‭ ‬الثالثة،‭ ‬وانتخب‭ ‬أستاذًا‭ ‬لكرسي‭ ‬الأدب‭ ‬العربيّ‭ ‬في‭ ‬الكوليج‭ ‬دي‭ ‬فرانس‭ ‬عام‭ ‬1975،‭ ‬ومديرًا‭ ‬للمكتبة‭ ‬الوطنيّة‭ ‬بباريس‭ ‬عام‭ ‬1984،‭ ‬وهي‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يشغل‭ ‬فيها‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬العربيّة‭ ‬الإسلاميّة‭ ‬هذا‭ ‬المنصب‭ ‬الرفيع‭.‬

ومن‭ ‬الأعمال‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬أندريه‭ ‬ميكيل‭ ‬مجال‭ ‬التاريخ‭ ‬وجغرافيا‭ ‬الأدب‭ ‬العربيّ‭ ‬الوسيط‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬بلغت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬كتابًا‭: ‬موسوعة‭ (‬جغرافيا‭ ‬دار‭ ‬الإسلام‭ ‬البشرية‭) ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬أجزاء،‭ ‬و‭(‬الأدب‭ ‬العربي‭) ‬و‭(‬العالم‭ ‬والبلدان،‭ ‬دراسات‭ ‬في‭ ‬الجغرافية‭ ‬البشرية‭ ‬عند‭ ‬العرب‭)‬،‭ ‬وترجمة‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬بالشراكة‭ ‬مع‭ ‬الناقد‭ ‬الفرنسي‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬جزائري‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬الشيخ‭ (‬1930-2005‭)‬،‭ ‬وترجمة‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬مثل‭ (‬كليلة‭ ‬ودِمنة‭) ‬وأشعار‭ ‬مجنون‭ ‬ليلى‭ ‬وغيرها‭.‬

تولَّدت‭ ‬شرارة‭ ‬العشق‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬ميكيل‭ ‬والثقافة‭ ‬العربيّة‭ ‬الإسلاميّة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1946‭ ‬إثر‭ ‬رحلة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الشمال‭ ‬الإفريقي‭ (‬تونس‭ ‬والجزائر‭ ‬والمغرب‭) ‬عندما‭ ‬كان‭  ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬البكالوريا،‭ ‬وتعمّقت‭ ‬هذه‭ ‬الشرارة‭ ‬في‭ ‬تعرفه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الزيارة‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭  ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬الرمزية‭ ‬العربيّة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البلدان‭ ‬ومنظوماتها‭ ‬الرمزية‭ ‬والإيحائية‭ ‬وسطوتها‭ ‬الجاذبة،‭ ‬وفي‭ ‬دمشق‭ ‬أنجز‭ ‬أطروحة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬التكميليّة‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬الفرنسي‭ ‬بدمشق‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬نصيحة‭ ‬المستعرب‭ ‬الفرنسي‭ ‬المشهور‭ ‬ريجيس‭ ‬بلاشير،‭ ‬وهو‭ ‬المستعرب‭ ‬الذي‭ ‬أنجز‭ ‬إحدى‭ ‬الترجمات‭ ‬المرجعية‭  ‬لمعاني‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭. ‬ويرى‭ ‬ميكيل‭ ‬أنَّ‭ ‬الجاحظ‭ ‬وابن‭ ‬المقفع‭ ‬هما‭ ‬بلا‭ ‬جدل‭ ‬أحد‭ ‬عمالقة‭ ‬الأدب‭ ‬العربي؛‭ ‬إذ‭ ‬يمثلان‭ ‬الرهان‭ ‬الذي‭ ‬حملته‭ ‬حضارة‭ ‬بأكملها،‭ ‬وذلك‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬زمنها،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬عبر‭ ‬حضوره‭ ‬بالانفتاح‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬والمساهمة‭ ‬في‭ ‬منظومته،‭ ‬سواء‭ ‬بتقاليده‭ ‬وابتكاراته‭. ‬

لقد‭ ‬أثرى‭ ‬الجاحظ‭ ‬التراث‭ ‬النقديّ‭ ‬والسرديّ‭ ‬والبلاغيّ‭ ‬العربيّ،‭ ‬أمّا‭ ‬ابن‭ ‬المقفع‭ ‬فقد‭ ‬أثرى‭ ‬التراث‭ ‬الفارسيّ‭ ‬والعربيّ‭ ‬والهنديّ،‭ ‬وبالتالي‭ ‬أدّى‭ ‬الاثنان‭ ‬دورًا‭ ‬تأسيسيًا‭ ‬في‭ ‬النثر‭ ‬العربيّ‭ ‬الكلاسيكيّ‭.  ‬ويقول‭ ‬ميكيل‭ ‬عن‭ ‬اهتمامه‭ ‬بالجغرافيا‭ ‬البشرية‭ ‬للعالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭: ‬‮«‬يعود‭ ‬فضل‭ ‬اهتمامي‭ ‬بالجغرافيا‭ ‬البشرية‭ ‬إلى‭ ‬أستاذي‭ ‬ريجيس‭ ‬بلاشير‭. ‬فقد‭ ‬وجَّهني‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحقل‭ ‬المعرفي،‭ ‬بحجة‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يلقى‭ ‬اهتمامًا‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭. ‬كشفتُ‭ ‬عن‭ ‬قارة‭ ‬الجغرافيين‭ ‬العرب،‭ ‬لا‭ ‬بصفتها‭ ‬قارة‭ ‬معزولة،‭ ‬بل‭ ‬بوصفها‭ ‬قارة‭ ‬تتداخل‭ ‬فيها‭ ‬عدة‭ ‬تخصّصات،‭ ‬وبالأخص‭ ‬تداخل‭ ‬الأدب‭ ‬بالرحلة،‭ ‬وبالجغرافيا‭ ‬والفن‭. ‬ولكن‭ ‬يرجع‭ ‬الفضل‭ ‬إلى‭ ‬الجغرافي‭ ‬أبو‭ ‬العبَّاس‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬إسحاق‭ ‬بن‭ ‬جعفر‭ ‬بن‭ ‬وهب‭ ‬بن‭ ‬واضح‭ ‬اليعقوبي‭ ‬صاحب‭ (‬كتاب‭ ‬البلدان‭)‬،‭ ‬المؤسّس‭ ‬الحقيقي‭ ‬للجغرافية‭ ‬البشرية‭. ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬زاوج‭ ‬بين‭ ‬الرحلات‭ ‬والأدب‭. ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬إذن،‭ ‬وبفضل‭ ‬اليعقوبي،‭ ‬وابن‭ ‬حوقل،‭ ‬والمقدسي‭ ‬نشأ‭ ‬علم‭ ‬‮«‬المسالك‭ ‬والممالك‮»‬‭. ‬والعمل‭ ‬الذي‭ ‬أنجزه‭ ‬المقدسي‭ ‬يبقى‭ ‬تأسيسًيا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الجغرافيا‭ ‬البشرية‭. ‬فقد‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬التحقيق‭ ‬الميداني‭ ‬والمعرفة‭ ‬المكتبية‭. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬جمع‭ ‬المعطيات‭ ‬وتصنيفها‭ ‬مارس‭ ‬جميع‭ ‬المهن،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬نزل‭ ‬إلى‭ ‬الميدان‭. ‬وإعجابي‭ ‬بهذا‭ ‬العالِم‭ ‬ليس‭ ‬وليد‭ ‬الأجزاء‭ ‬الأربعة‭ ‬للكتاب،‭ ‬بل‭ ‬سبق‭ ‬وأن‭ ‬ترجمت‭ ‬نصّه‭ ‬البديع‭: (‬أحسن‭ ‬التقاسيم‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الأقاليم‭) ‬وهو‭ ‬من‭ ‬منشورات‭ ‬المعهد‭ ‬الفرنسي‭ ‬بدمشق‭ ‬عام‭ ‬1963‮»‬‭.‬

تمثل‭ ‬ترجمة‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬أندريه‭ ‬ميكيل‭ ‬وجمال‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬شيخ‭ ‬تجربة‭ ‬استثنائية‭ ‬لدور‭ ‬الصداقة‭ ‬والانسجام‭ ‬الفكري‭ ‬الروحي‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬نص‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬عالٍ‭ ‬من‭ ‬الاستثنائية،‭ ‬وهي‭ ‬الترجمة‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬فرنسية‭ ‬عريقة‭ ‬جدًا‭ ‬هي‭ ‬غاليمار،‭ ‬ويلخص‭ ‬ميكيل‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬المدهشة‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬أعدّ‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬شيخ‭ ‬صنوًا‭ ‬لي‭. ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يُعوض،‭ ‬فقد‭ ‬وجدت‭ ‬فيه‭ ‬سندًا‭ ‬قويًا،‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬أستاذي‭ ‬ريجيس‭ ‬بلاشير‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬جمعتنا‭ ‬مغامرة‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬المغامرة‭ ‬وحدها‭ ‬تلخّص‭ ‬حكاية‭ ‬صداقتنا‭ ‬المشتركة؛‭ ‬حكاية‭ ‬ألف‭ ‬تبادل‭ ‬وتبادل،‭ ‬وألف‭ ‬حوار‭ ‬وحوار،‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬انتقاء‭ ‬كلمة‭ ‬أو‭ ‬اختيار‭ ‬عبارة‭ ‬أو‭ ‬تركيب‭ ‬نحوي،‭ ‬أو‭ ‬صيغة‭ ‬بلاغية‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية‭. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬تزاوجًا‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭. ‬لم‭ ‬يسعَ‭ ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬شيخ‭ ‬وراء‭ ‬الشهرة،‭ ‬ولم‭ ‬يركض‭ ‬خلف‭ ‬الإعلام‭. ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬أنَّ‭ ‬نتاجه‭ ‬يمثّله،‭ ‬وهو‭ ‬نتاج‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬الأبدية‭. ‬لكن‭ ‬سيجيء‭ ‬يوم،‭ ‬قد‭ ‬يصحّح‭ ‬فيه‭ ‬التاريخ‭ ‬هذا‭ ‬النسيان‭ ‬أو‭ ‬التناسي،‭ ‬ليعود‭ ‬جمال‭ ‬إلى‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬يستحقّها‭ ‬عن‭ ‬جدارة،‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬وفي‭ ‬مجال‭ ‬الإبداع‭. ‬يحتاج‭ ‬المتلقي‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬أندريه‭ ‬ميكال‭ ‬الموسوعي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬وللأسف‭ ‬لم‭ ‬تترجم‭ ‬أعماله‭ ‬كاملة‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬باستثناء‭ ‬كتب‭ ‬معدودة‭ ‬من‭ ‬أشهرها‭ ‬موسوعة‭ (‬جغرافيا‭ ‬دار‭ ‬الإسلام‭ ‬البشرية‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭) ‬و‭(‬العالم‭ ‬والبلدان،‭ ‬دراسات‭ ‬في‭ ‬الجغرافية‭ ‬البشرية‭ ‬عند‭ ‬العرب‭) ‬و‭(‬الأدب‭ ‬العربيّ‭).‬

{ ‭ ‬أستاذة‭ ‬السَّرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،‭ ‬

كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا