يمثل المستعرب الفرنسي آندريه ميكيل (1929-2022) آخر المستعربين الفرنسيين المؤثِّرين من الجيل القديم، وميكيل مؤرِّخ ومستعرب فرنسيّ مغاير ومتخصص في اللغة والأدب العربيّ الكلاسيكيّ على الرغم من أنَّ كثيرين من الباحثين الغربيين المختصين صنفوه ضمن مدرسة الحوليات التاريخيّة الفرنسيّة Annales)). وعلى الرغم من هذه الإشكالية التصنيفيّة إلا أنَّ ميكيل عصي على مجرد حصره في مدرسة أو اتجاه منهجي معين. شغل ميكيل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال إفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة، وانتخب أستاذًا لكرسي الأدب العربيّ في الكوليج دي فرانس عام 1975، ومديرًا للمكتبة الوطنيّة بباريس عام 1984، وهي المرة الأولى التي يشغل فيها متخصص في الدراسات العربيّة الإسلاميّة هذا المنصب الرفيع.
ومن الأعمال الكبرى التي اشتغل عليها أندريه ميكيل مجال التاريخ وجغرافيا الأدب العربيّ الوسيط في أعمال بلغت أكثر من ثلاثين كتابًا: موسوعة (جغرافيا دار الإسلام البشرية) في أربعة أجزاء، و(الأدب العربي) و(العالم والبلدان، دراسات في الجغرافية البشرية عند العرب)، وترجمة ألف ليلة وليلة بالشراكة مع الناقد الفرنسي من أصل جزائري جمال الدين بن الشيخ (1930-2005)، وترجمة الأعمال الأدبيّة الكبرى مثل (كليلة ودِمنة) وأشعار مجنون ليلى وغيرها.
تولَّدت شرارة العشق الأولى بين ميكيل والثقافة العربيّة الإسلاميّة في عام 1946 إثر رحلة قام بها إلى الشمال الإفريقي (تونس والجزائر والمغرب) عندما كان لا يزال في صفوف الدراسة في مرحلة البكالوريا، وتعمّقت هذه الشرارة في تعرفه في تلك الزيارة إلى قوة الذاكرة الجمعية الرمزية العربيّة في تلك البلدان ومنظوماتها الرمزية والإيحائية وسطوتها الجاذبة، وفي دمشق أنجز أطروحة الدكتوراه التكميليّة في المعهد الفرنسي بدمشق بناءً على نصيحة المستعرب الفرنسي المشهور ريجيس بلاشير، وهو المستعرب الذي أنجز إحدى الترجمات المرجعية لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية. ويرى ميكيل أنَّ الجاحظ وابن المقفع هما بلا جدل أحد عمالقة الأدب العربي؛ إذ يمثلان الرهان الذي حملته حضارة بأكملها، وذلك كي تكون حاضرة في زمنها، ومن أجل التأثير في هذا العالم عبر حضوره بالانفتاح على الآخر والمساهمة في منظومته، سواء بتقاليده وابتكاراته.
لقد أثرى الجاحظ التراث النقديّ والسرديّ والبلاغيّ العربيّ، أمّا ابن المقفع فقد أثرى التراث الفارسيّ والعربيّ والهنديّ، وبالتالي أدّى الاثنان دورًا تأسيسيًا في النثر العربيّ الكلاسيكيّ. ويقول ميكيل عن اهتمامه بالجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي حتى القرن الحادي عشر: «يعود فضل اهتمامي بالجغرافيا البشرية إلى أستاذي ريجيس بلاشير. فقد وجَّهني إلى هذا الحقل المعرفي، بحجة أنه لم يكن يلقى اهتمامًا من الباحثين. كشفتُ عن قارة الجغرافيين العرب، لا بصفتها قارة معزولة، بل بوصفها قارة تتداخل فيها عدة تخصّصات، وبالأخص تداخل الأدب بالرحلة، وبالجغرافيا والفن. ولكن يرجع الفضل إلى الجغرافي أبو العبَّاس أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي صاحب (كتاب البلدان)، المؤسّس الحقيقي للجغرافية البشرية. فهو الذي زاوج بين الرحلات والأدب. في القرن التاسع إذن، وبفضل اليعقوبي، وابن حوقل، والمقدسي نشأ علم «المسالك والممالك». والعمل الذي أنجزه المقدسي يبقى تأسيسًيا في مجال الجغرافيا البشرية. فقد جمع بين التحقيق الميداني والمعرفة المكتبية. ومن أجل جمع المعطيات وتصنيفها مارس جميع المهن، أي أنه نزل إلى الميدان. وإعجابي بهذا العالِم ليس وليد الأجزاء الأربعة للكتاب، بل سبق وأن ترجمت نصّه البديع: (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) وهو من منشورات المعهد الفرنسي بدمشق عام 1963».
تمثل ترجمة ألف ليلة وليلة المشتركة بين أندريه ميكيل وجمال الدين بن شيخ تجربة استثنائية لدور الصداقة والانسجام الفكري الروحي في إنتاج نص على قدر عالٍ من الاستثنائية، وهي الترجمة التي نشرت من خلال دار نشر فرنسية عريقة جدًا هي غاليمار، ويلخص ميكيل تلك التجربة المدهشة في قوله «أعدّ جمال الدين بن شيخ صنوًا لي. هو لا يُعوض، فقد وجدت فيه سندًا قويًا، مثله مثل أستاذي ريجيس بلاشير». وقد جمعتنا مغامرة «ألف ليلة وليلة»، وهذه المغامرة وحدها تلخّص حكاية صداقتنا المشتركة؛ حكاية ألف تبادل وتبادل، وألف حوار وحوار، عن كيفية انتقاء كلمة أو اختيار عبارة أو تركيب نحوي، أو صيغة بلاغية باللغة الفرنسية. كانت هذه التجربة تزاوجًا بين الشرق والغرب. لم يسعَ جمال الدين بن شيخ وراء الشهرة، ولم يركض خلف الإعلام. كان يعد أنَّ نتاجه يمثّله، وهو نتاج مفتوح على الأبدية. لكن سيجيء يوم، قد يصحّح فيه التاريخ هذا النسيان أو التناسي، ليعود جمال إلى المكانة التي يستحقّها عن جدارة، في مجال البحث العلمي وفي مجال الإبداع. يحتاج المتلقي العربي إلى الاطلاع على مشروع أندريه ميكال الموسوعي في مجال الأدب العربي الكلاسيكي، وللأسف لم تترجم أعماله كاملة إلى اللغة العربية باستثناء كتب معدودة من أشهرها موسوعة (جغرافيا دار الإسلام البشرية حتى القرن الحادي عشر) و(العالم والبلدان، دراسات في الجغرافية البشرية عند العرب) و(الأدب العربيّ).
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك