مثلما تمسُّ عصا الساحِر المُحترِف في الحكايات الأسطوريَّة الأشياء فتحوِّلها إلى كائنات تنبض فيها الحياة بجمالٍ يأسر الألباب؛ مسَّت عصا القائد الموسيقي البحريني وحيد الخان مشاعر جمهوره على مسرح البحرين الوطني خلال حفل العودة للحياة، فانطلقَ الطفلُ السعيدُ من أعماقهم لتُراقص روحهُ تلك الألحان، وتزداد حماستهُ مع المقطوعات التي تطرق أبواب الحنين لموروثه الشعبي البحريني فيُكافئ الفرقة الموسيقية وقائدها بتصفيقٍ حارٍ يؤكد استحسانَه وانتعاش مزاجه الفني.
برفقة المايسترو الروسيَّة فيكتوريا دوبروفاسكايا، وأوركسترا سنت بيترز بيرغ الكلاسيكي الروسي، وفرقة ليكويد البحرينيَّة، ونُخبة من فرقة البحرين الموسيقيَّة التابعة لهيئة الثقافة والآثار، قدَّم المايسترو وحيد الخان باقة من مقطوعاته الموسيقية التي تمزج بين روح الشرق والغرب بأسلوبٍ بديع ضمن فعاليات ربيع الثقافة 2024م، كان منها مقطوعات: العودة للحياة، صباحك الصبَّاحي، سعادة، متى؟ آها! دربك خضَر، البوشيَّة، الهبَّان وأُخرى، مُعلنًا حرصه على اختيار المقطوعات الباعثة على السعادة النائية عن الأحزان في هذا الحفل بوجهٍ خاص، ومُشيرًا إلى أحد مبادئه الفنيَّة بقوله: إنني مؤمن بأن من أهم أدوار الموسيقى والفنون بث الأمل والبهجة في وجدان الناس، ويبدو أن تلك البهجة التي نواها من صميم أعماقه لجمهوره امتد تأثيرها من التفاعُل الودي المُباشر والمُتبادل بينهُ وبين الجمهور لتستولي على كيانه بصورةٍ مُضاعفة تجلَّت في قيادته الفرقة بروحٍ سعيدةٍ متوثبة فوق غيوم النجاح، لتذكرنا برأي الفنان عيسى هجرس الذي أفصح عنه بعد سماع ألبومه الأوَّل بقوله: موسيقاه وألحانه زرعت في أعماقي الإحساس بأن هناك فرَاشا يعزف على أوتار النُّور، وأنغام انفلتت من قبضة السُّطور، شعرتُ بجمال الصَّباح ونشوة الأفراح، هناك تنوُّع للأنماط والقوالب الموسيقيَّة جرَّ التقليد فيها الحديث، وتحاورت الآلات مع بعضها بألحانٍ رشيقة التعابير والتصوير، وكل جُملة موسيقية تُنادي الأخرى للرقص على سلالم النَّغم.
لم يكُن نجاح الحفل غريبًا على خريج المعهد العالي للموسيقى في القاهرة مُتخصصًا بالعزف على آلتَي الأبوا والبيانو، الذي كانت دُفعتهُ تُلقَّب بـ الدفعة الناريَّة باعتبارها أكبر دفعات الكونسرفتوار كمًا حماسةً وموهبة، زميل نُخبة نجوم الموسيقى العرب ومنهم د. مجدي بغدادي، يحيى الموجي، نادري العباسي، بسمة عبد الرحيم، ومعالي زيرة الثقافة المصرية السابقة د. إيناس عبد الدايم التي شجَّعتهُ على إطلاق ألبومه الأوَّل بقولها: اعمل الألبوم بتاعك يا وحيد وحتكون أوّل حفلة ليك في القاهِرة، ولم يكُن النجاح غريبًا على فنان نال درجة الماجستير في تخصص علوم موسيقى الشعوب، الذي أسس المعهد الكلاسيكي للموسيقى في المنامة عام 1986م، وأسس مجموعة مدار وستوديو مدار للصوتيَّات عام 1989م قبل أن تنال دراسته الموسيقية التحليلية بعنوان: أغاني الغوص في البحرين جائزة البحوث العلمية عام 1990م لتكون ثمرة ثمانية أعوام من البحث والجمع والتوثيق، والذي رافقت موسيقاه التصويرية باقة من المسرحيات والمسلسلات الخالدة في ذاكرة المُشاهدين مثل: سوالف أم هلال، فتاة أُخرى، وبث غير مُباشر، كما لم يكُن التهاب أكُف الجمهور البحريني بالتصفيق المتواصل غريبًا بعد أن قوبلت موسيقاه بالتصفيق والاستحسان على أرض المجر حيث جمهور لا يعرف المؤلف الموسيقي وربما لا يعرف الكثير عن بلد المؤلِّف خلال أوَّل حفلٍ أقامه بعد انقطاعٍ دام 15 عامًا عن العمل في هذا المجال.
لعل من أهم أسباب نجوميَّة المؤلف الموسيقي وقائد الأوركسترا البحريني وحيد أحمد بن حسن الخان حرصه الدائم على الامتزاج ببيئته البحرينية وجمهوره على الصعيدين الشخصي والفني، فهو ابن البلد الذي كانت البُلدان الأخرى تستقطِب الموسيقيين منه كما تستورد اللؤلؤ من قبل اكتشاف النفط، وهو ابن البحرين الذي يفخر بكون الموسيقى البحرينية ثريَّة بالإيقاع لا سيما الإيقاعات المُصاحبة لأغاني الغوص لأن منبعها من هذه الجزيرة ذات الأجواء السَّاحليَّة المُحرِّضة على الإبداع والتبادُل الثقافي والمعرفي في مُختلف المجالات، وُلد في حالة أبو ماهر من المحرَّق حيث انطلق فنانون كُثر، وأثَّر في تركيبته النفسية خلال مرحلة الطفولة ذاك النسيج المُتآلف من سُكان المنطقة التي يعيش فيها رغم اختلاف أطيافهم وتنوعها، فرأى في الموسيقى انعكاسًا لهذا التنوع والتآلُف بطريقةٍ ما؛ لأنها لًغةٌ عالميَّة تؤلّف بين الأمم، وقوَّة ناعمة تُخاطب قلوب الشعوب الأخرى مُباشرة دون وسيطٍ أو ترجمان، وبهذا تؤدي دورًا قيّمًا للعيش والتعايُش بسلام، وهو المولود بجينات ورثت الإبداع عن جده الذي كان شاعرًا وملحنًا وجدته التي كانت تهوى العزف، وهو الطفل المأسور بأدق تفاصيل بيئته المحليَّة كنخلة منزل أُسرته ومشهد عودة السفُن إلى مرافئها وتساؤلات الناس اليومية في مُجتمعه لينسج من كُل لقطة حكاية تتحول مخزون يتنامى في أعماق وجدانه قبل أن يتجلَّى في صورة مقطوعة موسيقية، وهو الصبي الغارق في غرام الموسيقى الذي كان يتسلل إلى آلة الأكورديون التي يملكها خاله ليختلس لحظات العزف عليها بشغَف فيضبطهُ الخالُ الفنان مُتلبسًا ولا يطلب منه غير الاستئذان قبل العزف! وهو الفتى المفتون بالموسيقى إلى درجة قضائِه أكثر ما يُمكنه من وقتٍ معها خلال المرحلة الإعدادية من الدراسة ويدوِّن كلمات أغاني فريق البيتلز ثم يُحاول عزف ألحانها، وهو الشاب المُكافِح الذي اختار دراسة هندسة الحاسب الآلي في الجامعة لإرضاء أسرته ودراسة الموسيقى في معهدها العالي لإرضاء قلبه، وهو الفنان الحقيقي الذي رُغم غرَق مشاعِره في عوالم الموسيقى الخياليَّة الجارِفة إلا أنهُ يُحافظ على الجانب الحكيم من عقله ليُبحر في قارب النظرة الواقعيَّة لظروف العمل الفني واحتياجاته ومُتطلباته كي يصل بفنّه إلى بر الأمان الصحيح، وهو صاحب الروح المُبدِعة التي ترتوي من الدفء المعنوي وتقدير المُجتمع لما تُقدمه أكثر من الاحتواء المادي لأنه يعتبر أن كيان الفنَّان أسمى من أن يُخاطَب باعتباره مُجرد سِلعة.
لطالما كانت أرض البحرين موطنًا للإبداع الموسيقي الراقي منذ أن كان انسان الحضارة الدلمونيَّة العريقة يستعين بها لإقامة بعض الطقوس الدينيَّة في المعابِد كما تشهد الأختام العتيقة من تلك الحُقبة الزمنيَّة وفق ما أشار إليه كتاب قيثارة دِلمون الوتريَّة لمؤلفه محمود عبدالصاحب حسن، ومازال إبداع الماضي مُتصلاً بإبداع الحاضِر عن طريق توارُث المواهب جيلاً بعد جيل، والفنان وحيد الخان من تلك اللآلئ البشريَّة التي وصلَت بالموسيقى البحرينية إلى العالميَّة، وأبدعَت بما تملكه من موهبة ومهارةٍ وإتقان خطًا موسيقيًا فريدًا يصل بين الحاضِر والموروث من ماضي الزمان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك