على متَّكأ الرِّحْلةِ الأخيرة، أُقلِّبُ آماليَ الحَالِمة، ونفسي المُتْعَبةُ في أمانيها الغائِمة، أعاينُ أيَّامِي وأحسِبُ آلاميْ، فكمْ غفْلةٍ أخذتني إلى شياطينها، وأبعدتني عن صلاحي بكيدها وغرورها، فكلَّما همِمتُ إلى إنجازِ عملٍ يخلِّدني، حبستني عنه سواجنٌ تقيّدني، فتضيع ساعاتُ اجتهادي في مكائدِ اللَّهو العابرة، وتُرخي عقلي بملذَّات الغرائز المدمِّرة، فأبقى على ما أنا عليه، منطلقا على فرسِ الشَّهوات بلا عنان، هائم الهث وراء وهمٍ ودخان، كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَان، يحرثُ في الملذَّات فلا يحصدُ من جوفهِا إلا الآفات، لا قناعة تُشْفِيه ولا متَّكأ يلوذُ به فيُرضيْه.
فكم حلمتُ أنْ تهجرني تلك الملذَّاتُ بذاتِها، فأحيا لبقاءِ العمل مهاجراً عن غوايتها، فلا أرى نفسي إلا في صناعة ما يبقيني في ذاكرةِ الزَّمن البعيدِ، الذي شغل من قبلي شاغلُ الناس حين قال:
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ.
ذلك الشَّاعرُ الذي اخترق الدهور، وهاجرَ باحثاً عن ملكه بينَ القصور، فترك صاحباً ورحَل لعدوٍ يمتدحهُ فعاد إلى أرضهِ مقتولا.
لم يحصل على إمارةٍ يحيي فيها سياسته، ولا وزارةً يشفي بها غليل شغفه، إلا أنَّه صنع من الكلمةِ مدرسةً لكلِّ من قصدَ الأدب في أعلى مراتبه، فشغل العقولَ حتى اختصمت في شأنهِ الفحول ومازال غيثاً يمطرُ في كتب النحاة والبلغاء، شارحاً ذلك في ميميَّته:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ.
صحبته في خلواتي، حتى تلبَّستُ هِمَمَهُ العالية، وحِكمهُ البالغة، وحياتهُ القلقة المتمردة الهائمة في ذاتها، وأعود وأنا عاجزٌ عن نيلِ ما نالهُ من فنٍ يستحيلُ أن يصنَعهُ إنسانٌ وهو تائهٌ في الملذات، عابرٌ في الحياة لاهثٌ وراء الشهوات، فما أقبح الدنيا حين تُرينا في الغرائزِ لذَّةً في عوراتِها، فننامُ على خزيٍ، ونصحو بلا وعيٍ، ونمضي بلا سبيل.
فإنه وإن كان الساعي وراء الملك والإمارة، إلا أنَّهُ ساعٍ وراء قمة يجد فيها رفعته، فمضى لنيلها دون أن يصنع المستحيل في نفسه الندم، فرَكِبَ سابحه عابراً القفار والأمصار، معجباً بذاته، حتى بالغ في تعظيمها قائلاً:
أمِط عَنْكَ تَشْبيهي بِما وَكأنَّه
فَما أحَدٌ فوقي ولا أحدٌ مثلي
لم تشغله متعة عابرة، ولم تستهويه غانيةٌ ساحرة، مشغول بذاتهِ، منطلقٌ في صناعة أمجادِه، فهو الصادق بقوله:
إِنّي عَلى شَغَفي بِما في خُمرِها
لَأَعِفُّ عَمّا في سَراويلاتِها
وَتَرى الفُتُوَّةَ وَالمُرُوَّةَ وَالأُبُو
وَةَ فِيَّ كُلُّ مَليحَةٍ ضَرّاتِها
هُنَّ الثَلاثُ المانِعاتي لَذَّتي
في خَلوَتي لا الخَوفُ مِن تَبِعاتِها
فإنَّك ترى في سيرتهِ الترفُّع عن كل غريزة تهين كيانه، وتنقص من همته، وتعطلُ أحلامه، فلم يكن عابثاً سافراً شارداً مع أهْوائِه، ليس لتبتل يدَّعيه، بل لعفَّةٍ فيه تمنعه، ورفعة وشموخ لا يعظمانِ إلا في من بعُدَت عن الملذاتِ نفسُه، ليرفعها الى المقام السامي الذي يفاخر فيه قائلاً لحساده:
كَم تَطلُبونَ لنا عيباً فَيُعجِزُكُم
وَيَكرَهُ اللهُ ما تأتونَ والكَرَمُ
ما أبعدَ العيبَ وَالنقصانَ عن شَرَفي
أنا الثُّريا وذانِ الشيبُ والهَرَمُ
فأنا وإن لم تكتملُ عندي الدرايةِ، ولم تصنعني الأحداث لنيلِ الغاية، إلا إن الهمَّة التي يحييها في ذاته، جعلتني أركبُ همَّةً أكبرُ من جهدي وأعظم من أن يحتملها عزمي، فجلست في أملٍ طويل، أخاف أن يعجبني قولي، وأنا في زللِ الغاوين أعبر بلا سبيل، فأكون مجرد عابث ركب ظهر البحر بسفينةٍ لا شراعَ فيها ولا مجداف يحركها.
مازلت ألازمه وأقارن نفسي بعظمةِ نظمه، فأراني لم أصنع إلا غيا وابتذالا، فأعود خائباً مكتفياً بقراءته وقراءة الجهابذة من قبله وبعده، غافلاً عن القلم الذي جفَّ وهو ينتظرُ مني عزيمة تنفض غبار اليأس والقنوط.
وأنا ما بين يقظة وصحوة، وإذا بمعلمي قد جاء من عزلته، يناديني يا أيها البائس قم من آلامك، فما أقبح الدنيا وأنت فيها مغبون في أيامك، جامد في صناعة ذاتك، قم فإن العمل سلاح البقاء، والكتابة نعمة يحيا بها الأدباء، قم ولا تترك الندم يصنع فيك الكآبة، واجعله عجلةً تحرك فيك الهمَّةَ والإرادة، فلن تصنع فيك الآمال الغاية، فعلى قدرِ عزمِ الرِّجال تتبدل الأحوال، ويخلق الله فيك همماً تزن بعظمة هيبتها الجبال، فانهض بنهوض صاحبنا الذي قال:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
قم فما أقصر هذه الدنيا الفانية، وما أطولها في القيمة التي تحييها، فاكشف ظلم الليل ببريق اجتهادك، واحبس هوى النفس بقدرة عزائمك، واجعل حبك لذاتك هو العطاء واعلم أن:
القلبُ كالماءِ والأهواءُ طافيةٌ
عليه، مثلَ حَبابِ الماءِ في الماءِ
والقولُ كالخلقِ من سيْءٍ ومن حسَنٍ
والناسُ كالدَّهْرِ، من نورٍ وظَلماءِ.
ذاك أبو العلاء الذي خملت عن نيل الشهوات عزائمه، وصعدت في أدراك العلا هممه، فراح في خلوته يثري الحياة بحكمه، ويرسم من شعره سلاسل من الذهب تلمع بعبقريته، فأثرى بجواهره الأدب، حتى استفاقت في نفسي منه الكلمات المتمردة على الحياة، فلم تستكن لغريزة، ولم تخضع لمغرياتها المميتة، فمضيت في رحلتي معه سائلاً الحكمة من أعمى أشرقت الحياة في قلبه، وخاطب العقول بمهجته، حتى لبس العقل، معتزلا البرية، مهاجرا لذاته الغنية.
كلانا عشق أبا الطيب وشرب من معين أدبه، إلا أني تائهٌ بلا صناعة أرتضيها لنفسي حتى أستسقي منهما فلسفة الحياة، فلا زلت تابعاً على سبيل نجاة، أبحث عن ذاتي، لعلي أرى بذرة تنمو في حياتي، فأعظم أمرها بالسقي الحثيث، وأبعد بجلالها عن كل فعل خبيث، أما أبو العلاء الذي تشاءم مع المتنبي وثار على الدهر معه، أختلف معه في الغاية، فقد كان أبو الطيب مقبلا على الحياة باحثا عن أمجاد لا تقف عند زمن، حتى احتار فيه الناس فقال:
يَقولونَ لي ما أَنتَ في كُلِّ بَلدَةٍ
وَما تَبتَغي ما أَبتَغي جَلَّ أَن يُسمى
فلبس ما تلبس الملوك وسعى إليهم يزاحمهم في عروشهم، فلم يكن مدَّاحا للأعطيات وإن عظمت، بل كان يسعى للملك وبناء سلطة يرى أنه الأولى بها، فلم يكن سيف الدولة بخيلا في أعطياته، ورغم هذا خرج من عنده مهاجراً لكافور الذي تمنى أن يحصل من عنده ما يتمناه من ملك، ففطن له كافور وحرمه الحلم الذي يتمناه، فهرب من سلطته هاجيا له ولأهل مصر جميعهم بقصيدته المشهورة:
عيد بأيَّة حالة عدت يا عيد
بما مضى أم لأمرٍ فيْك تجديدُ
، أما أبو العلاء فقد نقم على الحياة رافضا ملذَّاتها، منعزلاً عن الدنيا وأهلها، فحرم على نفسه المتعة، وراح ينفر من كل لذَّة، حتى هجر كل ما أحل الله له، فلباسه الخشن، وأكله الشعير، وشرابه الماء، وغطاؤه الحصير، حتى نحل جسمه كما نحل من قبله المتنبي في صباه حين قال:
كفى بجسمي نحولاً أنَّني رجلٌ
لولا مخاطبتي إيَّاك لَم تَرَني.
حياتي في دراستهم متعبة، وفي متابعة نفسياتهم مرعبة، فهم ليسوا مبدعين مضوا بعد أن أثروا المتون بعطائهم، بل نفوس احترقت لتنير من لهبها طريقا لمن سار بعدهم، فشراح أبي الطيب الذين كشفوا بعلمهم الوافر معانيه، وأعربوا وحللوا مبانيه، لم يتكلموا عن نفسيته الجبارة التي تحتاج إلى دراسة تحليلية دقيقة، لأن النفسية القلقة الهائمة هي التي أخرجت لنا ذلك الشاعر الحكيم المبدع، فقد مدح ملوكاً وما كان القصد في مدحهم إلا نفسه، ووصف آخرين بالبلاغة والفصاحة والكياسة وهو في جميع كلماته يشرح أوصافه.
تأثرت به وبتلميذه أبي العلاء تأثراً نفسياً حتى تعب عقلي في فهمهم، وضاع تدبير في تحليل شخصياتهم، وها أنا أبحث عن كياني في متونهم فأجد نفسي قائلاً:
نوادِبُ قلبِي للنوائِبِ سامرُ
تنوحُ لها بين الضلوعِ زماجرُ
بنفسٍ إذا هاجَ الضرامُ بجوفها
تنفَّس جرحٌ في وريدي خامرُ
يثورُ بلوعاتِ المصيبة كلما
أتاهُ من المولى المعظَّم ذاكرُ
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك