موسوعة فنيَّة بشريَّة، ثروة من المشاعِر المُثقفة بإتقان، كنزٌ من الأفكار الإنسانيَّة التي لم ينصبُّ في بوتقة الإبداع المنظور إلا أقلّها، هذا أقلُّ ما يُمكن أن يوصف به الفنان التشكيلي السوري القدير يوسف عبدلكي، الذي يستضيف «فضاء فولك للفنون» في البحرين معرضه التشكيلي من 21 مايو إلى 2 يوليو 2024م، واهِبًا جمهور عُشاق الفنون والثقافة فُرصةً ثمينة لخوض تجربة استثنائيَّة ومُشاهدة جانب من أعمال فنان سبقَت لاحتضان لوحاته متاحف عالميَّة مرموقة منها المتحف البريطاني، ومعهد العالَم العربي في باريس، ومتحف عمّان للفن الحديث، والمتحف الوطني في الكويت.
الفنان الذي التقى به الجمهور في مكتبة مُتحف البحرين الوطني الأربعاء 22 مايو الماضي 2024م ليُفصح عن جوانب من آرائه ورؤاه عبر حوارٍ مفتوح حول الفن المُعاصِر والعربي؛ سلَّط الضوء خلال حديثه على باقةٍ من القضايا الفنيَّة بأسلوبٍ ينم عن ثقافة من الطراز الرفيع ومهارةٍ في إدارة دفة الحوار بطلاقة، فسرَدَ جانبًا من تاريخ لوحة الحامِل المُتداولة اليوم باعتبارها لوحة صغيرة الحجم تُحقق شروط النظام الرأسمالي بإمكانية نقلها من مكانٍ إلى آخر ومن ثم سهولة بيعها واقتنائها، وهي إنجازٌ أوروبي بدأ مع بدايات القرن العشرين ثم انتقل إلى بقية بقاع الأرض ومنها المشرق والمغرب العربي، وفي مُحاولة للإجابة عن السؤال المطروح دائمًا بشأن دور الفن في حياة المُجتمع؛ فقد أشار إلى أن الأعمال الفنيَّة قد تُعبّر عن أحلام المُجتمع وتعكس مُشكِلاته بطريقةٍ أو بأخرى؛ لكن من جانبٍ آخر يبقى كُل عمل فني وسيلة للإفصاح عن هموم شخصيَّة للفنان باعتبار كُل فنان هو جُزء من المُجتمع، لكن يظل الدور الأساسي للفنان هو تقديم رؤيته الجماليَّة للأشياء بأن يُقدّم أعمالاً تعكس رؤيته لذاته في هذا العالم وتستمتع عين المُتلقي بها في الوقت ذاته.. كما طرحَ وُجهة نظره التي ترى أن كُل رسَّام، شاعِر، عالِم اجتماع أو تاجر درَّاجاتٍ هوائيَّة لابُد وأن يرى الواقع المُحيط به ويحترم حقيقته؛ والواقع اليوم أننا نعيشُ في مُجتمع تُهيمن الرأسماليَّة على حركته، ولا يُمكن لإنسان الخروج من هذا هذه المنظومة القوية المُتحكمة بمصائر البشر لمُجرد رغبته الفرديَّة، لأنهُ إن فعل ذلك يحكم على نفسه بالعُزلة، والعُزلة الكاملة خيار غير مُتاح لأن الفنان إن لم يُفكر بالآخرين لحبسَ لوحاته في رأسه لنفسه، لذا لابُد من تقديم تنازُل من جِهة في سبيل الحصول على مكاسب من جهاتٍ أُخرى.
عن إقامة المعارض الفنيَّة ومُرتاديها في العالم العربي بوجهٍ عام أشارَ إلى حكايةٍ طريفة حدثت في دمشق عام 1948م؛ إذ اتفق ثلاثة فنانين تشكيليين سوريين في ذاك الوقت على إقامة معرضٍ تشكيلي في الطابق الأخير من وزارة التربية؛ يوم الافتتاح امتلأ المكان برُعاة المعرض ومُثلي الجات الإعلاميَّة والمدعوين، اليوم التالي لم يأتِ أحد، اليوم الثالث لم يأتِ أحد، وبينما كان الفنانون غارقون في إحباطهم خلال اليوم الرَّابع دخل شخصٌ إلى قاعة المعرض فدبَّ الأمل في أرواحهم وانطلق ثلاثتهم نحوهُ مُرحبين ومُبتهجين، وإذا به يسألهم بارتباك: عفوًا.. أينَ يقع الجامِع؟! فحتى هذا الزائر الوحيد دخلَ عن طريق الخطأ بينما كان يبحث عن مكان الجامع ليُصلّي.. هذا جُزء من واقع المعارض الفنيَّة في مُجتمعاتنا العربيَّة وعلى الفنان أن يكون واعيًا هذا الواقع لتكون توقعاته مُتزِنة ولا يغرق في هاوية الإحباط ومن ثم اليأس.
تجدر الإشارة إلى أن الفنان يوسف عبدلكي الذي يحترف المغامرة الفنيَّة منذ خمسة عقود وُلِدَ في مدينة القامشلي السورية عام 1951م، في الخامسة عشرة من عمره انضم للدراسة في مركز الفنون التطبيقية، هناك استمتع بدراسة الإعلان الجداري والخط العربي، ومنذ ذاك العمر المبكر وهو يهتم بالأعمال الغرافيكية أو الأعمال المطبوعة، نالَ إجازةً من كُلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1976م، وحصل على دبلوم حفر من المدرسة الوطنيَّة العُليا للفنون الجميلة في باريس عام 1986م، ثم الدكتوراة من جامعة باريس الثامنة عام 1989م، يُعرف اليوم بكونه من أشهر فنَّاني الحفر والجرافيك وتصميم الشعارات والمُلصقات والأغلِفة، كما أنه من أبرز رسَّامي الكاريكاتير المؤثرين في العالم العربي، ولا عجبَ إذ تتسم شخصيته بطابعٍ ساخرٍ يمتاز بسُرعة البديهة وروح الدعابة اللاذعة.. في معرضه الأخير الذي يستضيفه فضاء فولك للفنون في البحرين نرى باقة من لوحاته التي تُعبّر عمَّا يُطلق عليه الطبيعة الصامتة أو الطبيعة الجامدة كجُزء من مشروع فني بدأه منذ قرابة 25 عامًا، بينما تستوحي لوحاتٌ أخرى مضمونها من رُباعيات الشاعر المصري صلاح جاهين في مُحاولة للمزاوجة بين الإبداع وترجمة النص الأدبي بصريًا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك