إسقاطات جميلة عبّر عنها الكاتب بأسلوبه المتميز وبرسالة عميقة المعاني بأن الحياة على كوكب الأرض بكل هذا الفساد الأخلاقي والاجتماعي والظلم والحروب وغيره تجعل من الحياة مستحيلة على وجه الأرض لشخص سوي انها صعبة جدا وهذا ما جعل بطل الرواية يرفض تقبل الواقع كما هو.
سوف أتوقف أولا عند العنوان «موعد في ارض الرماديين». العنوان وحده يحكي لنا حكاية موعد بطلنا مع «غادينيا» ويربط هذا العالم العجيب معها حيث الحياة هناك في هذا العالم الغريب. نبدأ بالإهداء الذي احتوى على كل مفاتيح الرواية واسرارها: «لا خيار أمامك سوى ان تغادر إلى أصقاع أخرى». وكأنه يقول عندما وصلته رسالة الذهاب الى العالم الاّخر، قال في نفسه لا يوجد خيار أمامي سوى المغادرة ولأنه رأى أحلامه تتبختر وتسير امامه، ويرجع ويقول «فربما ترى حلمك يرفل مثل البنفسجة التي حلمت بها دائمًا، انت حتمًا في المكان الخطأ». لكنه عندما يذهب إلى ذلك العالم الذي صور له وتوهم لفترة انه المدينة الأفلاطونية وجد انها لا تختلف عن كوكبه وما فيه ولربما تكون اسوأ من ذلك، ليقرر بعدها العودة لموطنه وعندما يذهب يقرر الرجوع مرة أخرى لأنه صُدم بعد ان وجد ان عالمه أصبح أكثر وجعا والمًا من ذي قبل، فيقرر العودة الى العالم اللاأفلاطوني. ولذلك يقول هذه الأرض «لا تنبت غير الوجع والنجيع». تمكن الكاتب من التركيز على الحوار العميق الذي يشد القارئ وقدرته على اختيار المفردات في العبارات الحوارية، وقد تجلت بشكل واضح من خلال تسلل الأحداث في الرواية كما ان توظيفه للغة الشعرية زادتها حيوية واضافت بعدًا جماليا مؤثرا. لغة الرواية غنية جدا ساعدت في اثراء السرد.
في هذه الرواية العجائبية وما يقع فيها من احداث خارج عن الواقع، أي الخارق واللامألوف. والعجيب أن الكاتب هنا استخدم كل الأساليب للدخول من خلالها لهذا العالم. كما اتخذ من الأحلام والفنتازيا سبيلا للبناء الفني في الرواية. في هذه الرواية تترابط ويندمج العالم الواقعي بالفنتازي العجائبي الذي استطاع الكاتب الدمج بينهما وهذا ما يصعب على الكثير من الكتّاب. من يستطيع جعل هذا التناغم كنسج واحد مما يجعل القارئ في تشوق مستمر لمعرفة الأحداث في جوف الأرض، في هذا العالم أو عالم الرماديين الذي يمثل الحديث عنه حديثًا عن عالم الاساطير، أو قد يظن البعض انها هلوسات، لكن الكاتب قدّم في روايته ما كتب ووثق عن حقيقة وجود هذه العوالم وادخلها بطريقة تتناسب مع أحدث السرد. قراءة مثيرة تتقاطع وتتشابك بين ما هو حقيقي وما يتقبله العقل البشري او لا يتقبله. انه احجية عن عالم الرماديين. وكما هو الحال في العنوان وفي الاهداء في مقدمة الرواية فهما يعتبران بوابة دخول قوية لعالم هذه الرواية، بداية بسرد سلسل متين والتي يبدأها بوصف تلك الليلة بأنها ليست كباقي الليالي.
في تلك الليلة ذهب الى فراشه مبكرًا هربًا من كل ما حوله. هناك سؤال لا ينفك يفارقه لماذا هو لا يشبه الناس كثيرا ويختلف عنهم في بعض ملامحه وعناصره، طريقة نومه الغريبة مثلًا فهوه ينام متكوّرا وشخيره لا يشبه البشر بل يقترب من صوت الوعول حتى لون سائله أقرب للون الرمادي. اخدته والدته إلى أكثر من طبيب لمعروفة حالته لكنهم لم يكتشفوا او يعرفوا سببًا لذلك. ينام البطل ليرى في حلمه شيئًا مخيفا ومثيرا وغير قابلًا للتصديق شبهها بلوحة للرسام الاسباني سلفادور دالي.
من هنا تبدأ الرحلة معه ومع أحداث الحلم يترآى له ذلك الرجل الرمادي لينقده، ويصف لنا الرجل بلونه الرمادي وعينيه الكبيرتين العميقتين مثل نفق. ابتسم له الرمادي وقاله انا من اسلافك، ونحن ننتظرك منذ زمن في عالمنا أي عالمك الحقيقي. ويراه كذلك في حلم آخر في ليلة أخرى وحدد موعدًا للقاء معه في احدى عيون البحرين التي اندثرت كلها ولم يبقَ منها الا ذكريات لكن هناك عين لم تعد عين بالمعنى الحقيقي بقيت محاطة بأسوار، كأنها تحفه فنيه قديمة ولم يجد البطل ذلك الرمادي في تلك الليلة لكنه عاوده في الحلم مرة أخرى والتقاه ليوافق بعده على الذهاب معه لعالمه ولكن بشرط عودته بعد عام ان لم يرق له المكوث. تطرق الكاتب كذلك بأن الأعوام في عالم الرماديين تختلف عنه في العد الزمني. قدّم الكاتب بين طيات السرد معلومات عن هذا العالم معلومات علمية موثقه واحداث حدثت مما يؤكد وجود عوالم أخرى واستند على آيتين قرآنيتين لتوكيد صحة هذا المعتقدات وليبقى للعقل البشري التقبل او الرفض.
ونمضي في الاحداث بذلك التسلل والاسقاطات التي امتزجت ببعضها البعض دون ان تجعل الاحداث او السرد مملًا بل العكس كان التشويق جميلًا. ففي ذلك العالم المتطور علميا والذين كانوا يختطفون البشر فيه، ليس كل البشر بل نخبة ذكية معينه منهم لتعديل النسل في ذلك العالم العجائبي. يقول البطل نمت عند وصولي بعد نوبات من التفكير والتشتت برغم طيب الترحيب والاستقبال والحفاوة التي لم يحظى به يوما في عالمه. تعرّف هناك على غادينيا التي ستشاركه الحب والفراش في الأحادث القادمة وستكون رفيقة حياته وانبهر بكل ما رآه في هذا العالم من تطور. شاهد بشرًا موجودين هناك اختطفهم الرماديون وتقبلوا ذلك العالم هذا وتعايشوا معه. الرماديون - حسب رأي الكاتب- متطورون جدًا عن البشر بآلاف السنين، اخترعوا شمسا صناعية لتكون الأجواء مناسبة للبشريين الذين يختطفونهم. قاموا بعمليات تجميل للرماديات بزرع أعضاء تناسلية لهن لكي يتمكنوا من التزاوج مع البشر من أجل تحسين أشكال الرماديين. تعرّف البطل واسمه وائل على امرأة رمادية اسمها شيرورا تعمل نادلة ومع الوقت تطورت علاقته بها، وأصبحت صديقة له. وفي يوم من الأيام قامت بإغوائه بعد ان شرب معها ذلك الشراب العجيب حيث الطعم عكس الاسم ولم تكن تلك المحاولة هي الأولى، لم تنجح كل محاولاتها السابقة لكن محاولتها تلك الليلة نجحت لأنها أسكرته فحملت منه. وفوجىء البطل بأن الرماديات اللواتي يحملن من البشر يلقين نحبهن بعد فترة قصيرة من انجابهن. (حاول الكاتب توصيل رسالة هنا للقارئ ادخلها مع السرد ان عمليات التجميل ليست الا ناقوس موت يدق مضجع صاحبها وأنها اعتراض على خلق الله والطبيعة لا تقبلها) انجبت شيرورا ثلاث أبناء واحد منهم يشبهه وأسمته ياسين، لم تطلق أسماء الرمادين على ابناءها. تموت شيرورا بعدها ويقرر ان يأخذ ابنه الذي يشبهه بمساعدة صديقه صغور الذي كان عونا له في هذا العالم فهو من احضره الى عالم الرماديين.
تمضي الأحداث بظهور شخصيات متعددة ليكتشف ان الطبقية موجودة وإن كان بشكل أقل. وبعد التحاليل التي أجريت له تبين انه من سلالة السلاطين أي الطبقة العليا ليدخل الصراع مجددا بعقله المتميز. واكتشف خلال تجواله أمورا متعددة جعلت الخوف يسكن عقله وقلبه. لن اغوص أكثر في أحداث الرواية وسوف اذهب إلى الخاتمة بعد رجوع البطل إلى الأرض ومعه ابنه ياسين. كان محط استغراب عالمه وكتبت عنه الصحف والمجلات وكان حديث الساعة واستقبلته برامج التلفاز وأخيرا تم اعتقاله والتحقيق معه واتهامه بالجنون، حتى عمله لم يستطع العودة اليه خوفا منهم على سير العمل. هناك من قال بأنه ممسوس وان الجن اختطفته الى اخره. لم يستطع تحمل ما حوله وخشي على ابنه ان يكون في عالم منبوذ لا يتقبله. تواصل مع صغور الذي اتفق معه أنه إذا لم يقرر العودة خلال ثلاثة أشهر سوف تكون عودته مستحيلة. حينها عاد الى ذلك العالم الرمادي مجبرا وليس مخيرا من اجل ابنه. استقبلته غادينيا بكل فرح كانت تشير بعينها إلى بطنها إشارة انها تحمل مولودا، منه لم ينتبه لكثرة شروده لكنها حدثته بالأمر واخبرته وبأن ياسين سوف تكون له اخت وأنها قدمت استقالتها من العمل.
ضمها الى صدره وهو يقول لها انت مرفئ الأخير.
في الخارج كان المطر يهطل وكأنه يحتفل بعودته، السماء تشاركه ما في قلبه. وهو يرنو إلى الأفق البعيد تسقط دمعتان... وتنتهي هذه الرواية الغرائبية الفانتازية لتترك القارئ أمام متعة عارمة وأسئلة كثيرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك