على الرغم من صدور اشتغالات الروائية السعودية أميمة الخميس في رواياتها: (البحريات) و(الوارفة) و(زيارة سجى) عن وعي نسوي ومركزية لافتة لخطاب المرأة السردي إلا أنَّها في روايتها الأخيرة (مسرى الغرانيق في مدن العقيق) اختارت أن تكون شخصيتها السَّردية المركزية رجلاً هو مزيد الحنفي الذي تسرد من خلال مسارات رحلته الممتدة خطابها الفكري والثقافي ورؤيتها السردية لقضايا إشكالية كبرى كانت ولا تزال تمثل راهنًا عربيًا يساءل العقل العربي. إنَّ حضور خطاب الروائية الخميس طاغٍ من خلال تلك التماثلات الكبرى بينها وبين مزيد الحنفي (الأصل النجدي، الامتدادات العائلية الفكرية والثقافية، رحلة البحث العقلية عن أسئلة كبرى وغيرها)، إلى الحد الذي يمكن أن تشكّل فيه هذه الرواية سيرة ذاتية فكرية مقنَّعة للخميس تمثل سردًا موازيًا ومتقاطعًا مع سيرة مزيد الحنفي ورحلته الفكرية الكبرى سعيًا إلى الحقيقة.
تمثل نجد (اليمامة) فضاءَ سرديًا مركزيًا في الرواية (بطل الرواية مزيد الحنفي وامتدادات جذوره، والدته شما التي يرد ذكرها مسرودة بضمير الغائب في مواضع عدة من الرواية، الكم الهائل من مدوّنة الشعر العربيّ القديم عن نجد التي تمثل ذاكرة النوستالجيا (ذاكرة استرجاعية) تتدفق كلما أزمع مزيد الحنفي على الدخول إلى مسار جديد من مسارات رحلته إلى مدن العقيق، حضور نجد الباذخ المركزي، أبطال الرواية وهم يروون أشعارًا نجدية. لقد صرَّحت الخميس في لقاء أُجري معها عن سر إلحاحها السَّردي على مركزية نجد في الرواية برغبتها في إبراز هذه المنطقة التي غُيبت وهُمِشت لصالح المراكز الثقافيّة العربيّة الكبرى آنذاك (الشام، وبغداد، والقاهرة) على الرغم من الذخائر الكبرى الثقافيّة والفكرية والإبداعيّة التي أنتجتها والتي تمثل مصادر تأسيسيّة للثقافة العربيّة الكلاسيكية.
لقد اتخذت أميمة الخميس من سيرة بطلها (مزيد الحنفي) محورها السردي وهو ينطلق من منطقة اليمامة في وسط الجزيرة العربية، ويتنقَّل بين البلدان هناك شغوفًا بالسؤال، وبخاصة سؤال المعرفة، وتوقَّف برهة في بغداد، ويصف لنا في أثناء رحلته كلَّ ما يمر به من بلاد، وخلال هذه الرحلة يجمع الكتب، ويعرض عادات سكان هذه البلاد وطبائعهم، وثقافاتهم، وتقاليدهم، وخصائصهم، وتكوينهم الديني والاجتماعي. في رحلته المعرفية. وتمضي بنا الروائية عبر روايتها التاريخية من بغداد إلى القدس فالقاهرة ثم تنقلنا إلى القيروان فالأندلس من خلال بطلها مزيد الحنفي الذي يسافر إلى هذه المدن جميعها. ويعتمد الوصف الروائي لديها على المفارقة الروائية المقارنة بين الأبعاد الحضارية والثقافيّة والسياسيّة جنبًا إلى جنب مع الوصف العمراني الذي لا يأتي وصفًا مجردًا، بل يأتي وصفًا مفعمًا بروح اللحظة التاريخيّة من خلال تقابل الصور المعمارية بين الأعمدة الفخمة والمقاعد الخشبية وبين البنيان الدائري. ولا يمكن تحييد نظرة السارد مطلقًا في الهوامش والمراكز الثقافية.
توفر الإمبراطورية للشخصيات حرية الحركة؛ فهي فضاء سردي مفتوح على التنوعات الخصبة، وتأخذ الأفعال فيه سمة المغامرة التي تستبطن فكرة، وربَّما معتقدًا، فحيثما تمتد تخوم الإمبراطورية تمتد أحلام الشخصيات وطموحاتها ومجال حركتها، فأبطال الملاحم والسير الشعبيّة والحكايات الخرافية ومرويات الفروسية في الآداب القديمة والوسيطة، كما يذكر الناقد عبدالله إبراهيم، يتمتعون بحركة لا تعرف حدودًا جغرافية، بل إنهم ينتهكون أحيانًا تخوم الإمبراطورية نفسها، وهي في الغالب تخوم قيمية لها صلة بالمعاني الثقافية. وتفجر تلك الحركة الحرة الطاقة المكبوتة عند الشخصية، فلا كابح لها لأنها منذورة لدور إصلاحي نافع، أو معتقد خلاصي عام، أو اكتساب تجربة بفعل يرتقي إلى درجة المغامرة. تندرج في إطار «التخيل التاريخي» لتفصح عن موقف الروائي من العالم والقيم الدينية السائدة والظواهر الثقافيّة والسياسيّة، وهوس الارتحال والانتماء الثقافي المرن والتحوّل الدائم في الهويات السَّردية.
يقوم التخيل التاريخي على قاعدة التلاعب بالوقائع التاريخية وإعادة تركيبها على وفق مقتضيات السرد حيث تدمج الشهادات بالمرويات التاريخية في سياق ذلك التخييل وتقنية السرد الكثيف وتلك الحشود السردية من مئات الشخصيات التي تتقاطع مصائرها ومآلاتها في الرواية فيؤول إلى تخيل تاريخي ينفي وجوه الشبه بين الأشخاص والأحداث والأماكن في الرواية، وما يماثلها من أشخاص وأحداث وأماكن حقيقية بواسطة التوازي بين العالمين، وابتكار عالم جديد يرتبط بهما وينفصل عنهما في الوقت نفسه. ولا تقدم هذه الرواية وقائع أرشيفية تاريخية جاهزة حدثت في زمن مضى قائمة على المطابقات التاريخيّة الصارمة، وإنَّما تهتم بالكيفية التي يتخيل فيها الكاتب تلك الوقائع مرتبطة بحيوات مجموعة من الشخصيات، وطريقته في تحريرها من الإطار التاريخي، وإعادة إنتاجها في سياق سردي، فتمتزج الأحداث والشخصيات بأسلوب صوغها في تشكيل متجانس يصرح بهويته النوعية، فينبثق التخيّل التاريخي من التقاطعات بين المادة المستعارة من الماضي، وطرائق العرض السردي التي تقترحها الروائية لتركيبها في تشكيل سردي جديد يشكِّل خطابًا ثقافيا دالاً (Discourse).
اعتمدت الروائية تقنية السرد الكثيف من خلال توظيف الأرشيف التاريخي في تلك. المساحة التي غطتها الرواية بامتداداتها الجغرافية (نجد، بغداد، القاهرة، الأندلس)، وبما يمثِّل المكان في أبعاد الرواية وآفاقها التأريخيّة والفكرية من رؤية سردية أخرى للتاريخ، وحجم مهول من الحراك البشري بكامل مكوناته الحياتية يقتضي الإحاطة الموسوعية من خلال الاختلاقات السردية القائمة على لعبة التناصات الثقافيّة التي أبدعت فيها الخميس وتألقت.
أستاذة السرديات والنقد
الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك