هنا في كوبر بيدي مدينة التعدين، حيث يعيش السكان المحليون في مخابئ تحت الأرض وسط الصحراء الأكثر امتدادًا والأكثر جفافًا والأكثر اختلافًا في جنوب استراليا، يقدّم لنا إيفان سين كمخرج وكاتب ومحرر وملحن ومصور سينمائي أفضل أعماله إلى الآن.
Limbo 2023 فيلم بارد مثير يتحدث حول الهوة الشاسعة بين كونك أسود أو أبيض في أستراليا، حيث لا يمكن وصف الأذى والألم والخسارة بأي شيء أكثر من هذا.
إنها قصة جريمة مؤرقة حول العنصرية النظامية بين السكان الأصليين والأستراليين البيض، بطولة سايمون بيكر في دور ترافيس هيرلي، وهو شرطي أسترالي يبدو منتهي الصلاحية ومدمن مخدرات تم إرساله إلى البلدة الصغيرة (Limbo) ليتبين إمكانية إعادة فتح قضية عمرها 20 عامًا تتعلق باختفاء فتاة صغيرة من السكان الأصليين، ولم تبد الشرطة أي اهتمام بالقضية في ذلك الوقت إلا بعد فوات الأوان، فقد حاولوا وفشلوا بصعوبة في إلقاء اللوم على أحد المشتبه فيهم السود (تشارلي) وهو شقيق الفتاة المفقودة، الذي يعيش في مقطورة على أرض قاحلة مليئة بأكوام الطين، بينما سقطت الشكوك عن (ليون) المنَقّب الأبيض المعروف.
ينطلق ترافيس بين سكان البلدة في حوارات متوترة، فلا أحد في المدينة لديه ذكريات إيجابية عن الطريقة التي أدير بها تحقيق الشرطة الأول، الجميع في ليمبو يعرف أكثر مما يقول فلا نسمع أبدًا القصة الكاملة لأي شخص ولا من أي شخص، بضع كلمات هنا وهناك تشكل مجتمعةً نسيج هذا المجتمع النائي بحياته الصعبة، من تلك التفاصيل الصغيرة يقدم لنا سين تاريخ جريمة تتجاوز الخطف أو القتل، ولا يجعلك تنتظر حلاً فليس هنالك لغز.
ما لا يفعله سين في فيلم جريمة هو تقديم جريمة والتحقيق فيها واختتامها بالحل، فالجريمة الأصلية هي تلك المناظر الطبيعية البائسة كالقبور، هي ليمبو الغريبة وهي صوت مواعظ الكتاب المقدس المزعجة في الراديو، «أنا لا أتحدث إلى الشرطة، وخاصة الشرطة البيضاء» هذا ما قاله تشارلي لترافيس، هنا هي الجريمة بكلّ ثقلها التاريخي.
يستخدم سين مجازات مألوفة لدراما الجريمة، لكنه يجردها في كل مرة تحاول الإمساك بها في لحظة ما، هناك قسوة في إيقاعات تنقّل ترافيس بين المواقع، ومطاردة المشتبه بهم السابقين والاستماع إلى أشرطة المقابلات الأولية، هناك جاذبية لكل ذلك وكأنه جريمة وهو ليس كذلك.
يضع سين شخصياته أمامك كشخصيات صغيرة داخل هذه المناطق الصخرية مقابل مساحات شاسعة من الصحراء وتحت سماء أحادية اللون لا نهاية لها، فقد تم تصوير الفيلم باللونين الأبيض والأسود، تلك الصحراء بلونها الأصفر المميز نراها ناصعة البياض وكأن الغبار الذي يعلوها كومة من الثلوج، فلا تشعر بالحرارة التي دفعت سكان هذه البلدة الى العيش تحت سطح الأرض هرباً منها، بل تغرق في برودة مشاعرهم وسط هذا الكابوس الدائم المتمثل في اختفاء شارلوت والمرتبط بشكل وثيق بالعنصرية السافرة للشرطة وعدم الاهتمام من المجتمع الأسترالي الأوسع هناك - كما أشار تشارلي في وقت مبكر من الفيلم - «لو كانت شارلوت فتاة بيضاء لكان التحقيق في اختفائها قصة مختلفة تمامًا».
التصوير السينمائي مذهل -شاشة عريضة بالأبيض والأسود، مع لقطات جوية مميزة فوق المناظر الطبيعية يفرز فيها كل شيء حتى البشر، فيجعلك تنغمس تمامًا في الشخصيات من دون تشتيت الانتباه الملون، واللقطات كانت بالمجمل طويلة مع عدد قليل من اللقطات المقربة، فتدرك أن سين بذلك يعرف بالضبط ما يفعله ويثق بأثره.
أما بالنسبة لسيمون بيكر فيبدو أنه يفهم شخصيته تمامًا من تلك الحركات المنهجية البطيئة ومشاهده الصامتة العديدة، تجده يتحكم في الشاشة أحيانًا دون أن ينطق بكلمة واحدة.
والنهاية ليست التي يتوقعها المشاهد، ولكنها تبدو حقيقية بشكل مدهش، إنه خيار شجاع آخر من جانب إيفان سين ومثير للجدل بعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم، فالجوهر يكمن في مكان آخر، في حقيقة وجود هؤلاء الأشخاص، في حقيقة الأشياء التي نلاحظها والتي لا نلاحظها، هذا العمل سياسي بشدة وجميل بشكل صارخ.
وفي النهاية انظر إلى هذا السطوع للأبيض على طريقٍ صحراويٍّ سريع، واستمتع بالاتساع الهائل لحقل التعدين الذي يمكن رؤيته من الجو مبتعدًا...... كلقطة أخيرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك