للتوثيق أهمية كبيرة في حفظ نتاجات الأمم والحضارات، وصونها من الطمس والضياع، وتوريثها للأجيال، وهو مؤشر من مؤشرات تطور المجتمعات، ورقي فكرها، وتقدم وعيها، وعراقة حضارتها.
يمتاز أدب أمتنا العربية في العصر الحديث والمعاصر بتجارب شعرية كثيرة، بعضها كتِب لها الظهور والشهرة، وبعضها ظلّت مغمورة، تحتاج إلى باحثين منصفين وجادين، ينفضون الغبار عنها، ويبرّزون إبداعها، ويخلدون ذكراها في مخيلة التاريخ، وينقلون تراثها للأجيال.
وتحفل أمتنا العربية على مر تاريخها الطويل بتجارب إبداعية متميزة، وضعت بصمتها في الساحة الأدبية والفكرية، وخطت مسارات متميزة، كان لها ارتدادات معرفية قوية، أسهمت إسهاما كبيرا في تراكم العلم، وإثراء المعرفة، وصون الأدب، وتأثيث الثقافة. وهناك من المبدعين والباحثين في عصرنا الحالي من تبنى مشروعا معرفيا، كُتِب له النجاح، فأسهم في تأثيث المشهد الأدبي العربي، وأمده بدماء جديدة، ساعدت في تحريك عجلته المعرفية وتطوير عتاده الأدبي، وتوثيق حرفه الإبداعي. فاطمة بوهراكة واحدة من هؤلاء المبدعين، الذين حاولوا أن يسطروا بأناملهم تاريخا أدبيا مشرقا، فقد وهبت نفسها للحفاظ على الحرف الشعري العربي، وسخرت كل جهودها لتوثيقه، وحمايته من الضياع، فأثرت المكتبة العربية بمجموعة قيمة من الإصدارات الشعرية، التي تعرّف القارئ بأسماء شعراء كثُر، كان يجهلها، وقربت له مائدة دسمة من القريض، يتغذى من حرفها، ويتغنى بموسيقاها، ويتسلى بجمالياتها.
يركز الكتاب على تجربة الموثقة المغربية فاطمة بوهراكة في التوثيق الشعري الموسوعي العربي، ولا أجد حرجا أن أقف قليلا عند معرفتي بها، التي بدأت في مهرجان فاس الدولي للإبداع الشعري، الذي أقيم 2017م بمدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، عندما تلقيت دعوة من دارة الشعر المغربي للمشاركة، فسررت بذلك، وكان لقاء أدبيا مميزا إعدادا وتسييرا وتنظيما، وحدثا ثقافيا باذخا، أبهرني، ومنذ ذلك الحين وعلاقتي بالباحثة تزداد تقديرا وتزدان احتراما، وتتمتّن أكثر فأكثر مع كل لقاء أو تواصل جمعني بها على موائد الحرف وولائم القريض.
عرفت فاطمة بوهراكة عن قرب، فوجدتها إنسان رقيقة، وشاعرة عميقة، وموثقة وثيقة، وكاتبة رشيقة، صادقة في مواعيدها، وصريحة في تعاملها، وكريمة في معاشرتها، ومجتهدة مجدة في عملها، لا تكل ولا تمل في سبيل تحقيق أهدافها.
تولد لديّ شغف بما تنجزه الباحثة، وخصوصا أنها كانت تهديني نسخا من أعمالها، وكنت أطلع عليها، وبعد أن اطلعت على كل أعمالها وإصداراتها الشعرية العربية، وصفتها بوزارة الثقافة الشعرية العربية؛ لأنها قدمت أعمالا لم تقم بها وزارات الثقافة العربية بما تمتلكه من مقومات بشرية ومادية، لكن الباحثة بمفردها وفي زمن قياسي جاءت بما لم تستطع عليه هذه الوزارات وإداراتها وطواقمها، بل عجزت عن القيام بها. لقد جمعت الباحثة في موسوعاتها الكثير من بيانات الشعراء والشاعرات العرب في العصر الحديث والمعاصر وصورهم، وأحاطت بسيرهم وأخبارهم، أحياءهم وأمواتهم، وشيوخهم وشبابهم، بل حفرت عن أول من طبعت ديوانها من الشاعرات.
إن ما دفعني إلى تأليف هذا الكتاب أمران: الأمر الأول وجود فراغ معرفي في حقل التوثيق الشعري الموسوعي العربي، فلم أعثر - في حدود علمي - على كتاب أو بحث تناول التوثيق الشعري العربي الموسوعي، رغم كل الجهود التي بذلت قديما وحديثا في هذا المجال. هذا الأمر جعلني أتساءل لماذا لم يتم وضع علم التوثيق الشعري الموسوعي العربي، كي يوحد كل الجهود في إطار علمي موحد، ويضع منهجا علميا واضحا يهتدي به الباحث في مجال التوثيق الشعري الموسوعي العربي؟ ولا أدعي أنني أجبت عن هذا السؤال، بقدر ما حاولت وضع تصورات واقتراحات، علها تحاول الاقتراب من الإجابة عليه. الأمر الثاني هو أني رأيت جهود الباحثة فاطمة بوهراكة في ميدان التوثيق الشعري الموسوعي كثيرة، لكنها لم تحظ بدراسة في هذا المجال، رغم ما تستحقه من الأبحاث والدراسات، فقررت دراسة أعمالها التوثيقية.
قسمت محتوى الكتاب إلى مقدمة وأربعة فصول، تناولت في الفصل الأول حياة الباحثة فاطمة بوهراكة ونشأتها العلمية، وقاربت في الفصل الثاني مسألة التوثيق الشعري ومنهجه عند الباحثة فاطمة بوهراكة، ودرست في الفصل الثالث منجز الباحثة فاطمة بوهراكة في التوثيق الشعري الموسوعي دراسة بيبليوغرافية، وخصصت الفصل الرابع لبيان صورتها كباحثة موثقة في عيون الشعراء والأدباء والكتّاب والنقاد، وذيلت الكتاب بخاتمة لخصت أهم مضامينه.
لا يسعني في هذا المقام إلا أن أشكر الباحثة الموثقة فاطمة بوهراكة على صبرها وتحملها وسعة صدرها في الإجابة على تساؤلاتي واستفساراتي، كما أشكر كل من قدم لي مشورة أو معلومة، وأخص بالذكر سعادة الدكتور منذر عياشي من سوريا، وسعادة الدكتور عبد الرحمن الصعفاني من جامعة صنعاء - اليمن، وسعادة الدكتور عبد الرحمن بودرع من جامعة عبد المالك السعدي - المغرب.
رئيس قسم اللغة العربية
كلية التربية زنجب - المغرب
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك