العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

الثقافي

قصة قصيرة
بائعة الكرك

بقلم: مهدي عبدالله

السبت ١٧ أغسطس ٢٠٢٤ - 02:00

أمرّ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬أمرّ‭ ‬عليه‭ ‬صباحاً‭ ‬وأراها‭ ‬جالسة‭ ‬بمحاذاة‭ ‬الرصيف،‭ ‬أمرّ‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬العصر‭ ‬وأشاهدها‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬مكانها،‭ ‬وأمرّ‭ ‬أحيانا‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬فأجدها‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬هناك‭. ‬جالسة‭ ‬خلف‭ ‬طاولة‭ ‬خشبية‭ ‬متواضعة‭ ‬وأمامها‭ ‬دلّة‭ ‬شاي،‭ ‬مع‭ ‬صينية‭ ‬صغيرة‭ ‬عليها‭ ‬أكياس‭ ‬بها‭ ‬ورق‭ ‬عنب‭ ‬وصينية‭ ‬أخرى‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬حب‭ ‬الشمسي‮»‬‭. ‬أشفق‭ ‬عليها‭ ‬وأتساءل‭ ‬هل‭ ‬بلغت‭ ‬حالتها‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬والبؤس‭ ‬اللذين‭ ‬يرغماها‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭. ‬هي‭ ‬امرأة‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الثلاثينات،‭ ‬متدثرة‭ ‬بالكامل‭ ‬بعباءة‭ ‬سوداء‭ ‬وحجاب‭ ‬أسود،‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬وجهها‭ ‬الأبيض‭ ‬المتعب،‭ ‬المشوب‭ ‬بحمرة‭ ‬خفيفة‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬كثرة‭ ‬تعرضها‭ ‬لأشعة‭ ‬الشمس‭.‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬انتابني‭ ‬فضول‭ ‬لمعرفة‭ ‬سرها‭ ‬فتوقفت‭ ‬بالقرب‭ ‬منها‭ ‬وترجلت‭ ‬من‭ ‬السيارة‭.‬

‭ -‬السلام‭ ‬عليكم‭.‬

‭- ‬عليكم‭ ‬السلام‭ ‬ورحمة‭ ‬الله‭.‬

‭- ‬هل‭ ‬عندك‭ ‬كرك‭.‬

‭- ‬نعم‭ ‬عندي‭.‬

‭- ‬أعطيني‭ ‬كوباً‭ ‬واحداً‭.‬

‭- ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭.‬

استخرجت‭ ‬كأساً‭ ‬ورقياً‭ ‬صغيراً،‭ ‬صبت‭ ‬فيه‭ ‬الشاي‭ ‬وناولتني‭ ‬إياه‭.‬

‭- ‬هل‭ ‬فيه‭ ‬سكر؟

‭- ‬نعم‭ ‬لكن‭ ‬قليل‭.‬

‭- ‬شكراً‭. ‬كم‭ ‬سعره؟

‭- ‬300‭ ‬فلس‭.‬

أخرجت‭ ‬محفظتي‭ ‬واستخرجت‭ ‬ديناراً‭ ‬واحداً‭ ‬وأعطيته‭ ‬إياها‭. ‬أخذته‭ ‬ووضعته‭ ‬في‭ ‬درج‭ ‬الطاولة‭ ‬وراحت‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الفكّة‭.‬

قلت‭ ‬لها‭ ‬خلّي‭ ‬الباقي‭ ‬لك،‭ ‬فشكرتني‭ ‬بصوت‭ ‬مبحوح‭ ‬وخفيض‭.‬

غادرت‭ ‬المكان‭ ‬وأنا‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬المكافحة‭ ‬التي‭ ‬رضيت‭ ‬بهذا‭ ‬العمل‭ ‬المضني‭ ‬والمحرج‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬توفير‭ ‬قوت‭ ‬أولادها‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬زوجها‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬وتركها‭ ‬تصارع‭ ‬المحن‭ ‬لكي‭ ‬تؤمن‭ ‬حاجتها‭ ‬وحاجاتهم‭ ‬الملّحة،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬هي‭ ‬امرأة‭ ‬مطلقة‭ ‬قذف‭ ‬بها‭ ‬زوجها‭ ‬المجرم‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬الشارع‭ ‬لتصارع‭ ‬الآلام‭ ‬والظلم‭. ‬شغلني‭ ‬حالها‭ ‬وصرت‭ ‬أفكر‭ ‬فيها‭ ‬وفي‭ ‬إزالة‭ ‬الكرب‭ ‬عنها‭.‬

في‭ ‬المرة‭ ‬الثانية‭ ‬سألتني‭ ‬هل‭ ‬تريد‭ ‬شاي‭ ‬كرك‭ ‬أم‭ ‬كستر‭ ‬بالحليب،‭ ‬قلت‭ ‬لها‭ ‬سأجرب‭ ‬الكستر‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭. ‬سكبت‭ ‬الكستر‭ ‬في‭ ‬الكوب‭ ‬الورقي‭ ‬وناولتني‭ ‬إياه‭.‬

أردت‭ ‬أن‭ ‬استفيض‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬معها‭ ‬لكنني‭ ‬خشيت‭ ‬أن‭ ‬تغضب‭ ‬أو‭ ‬تذهب‭ ‬بها‭ ‬الظنون‭.‬

سألتها‭ ‬هل‭ ‬عندك‭ ‬عيال‭ ‬فقالت‭ ‬عندي‭ ‬خمسة‭ ‬أطفال‭ ‬أكبرهم‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭.‬

‭- ‬وزوجك،‭ ‬ألا‭ ‬يعمل؟‭ ‬

‭- ‬لا،‭ ‬إنه‭ ‬مقعد‭ ‬منذ‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬بعد‭ ‬إصابته‭ ‬بالشلل‭ ‬في‭ ‬رجليه‭.‬

‭- ‬أسأل‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يشفيه‭ ‬ويفرج‭ ‬كربته‭. ‬هل‭ ‬تحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬مساعدة،‭ ‬فلربما‭ ‬أستطيع‭ ‬مساعدتكم؟

‭ ‬شكرا‭... ‬سأخبرك‭ ‬لاحقا‭.‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬مررت‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ ‬ويا‭ ‬للعجب‭ ‬لم‭ ‬أجدها‭. ‬فقلت‭ ‬لنفسي‭ ‬ربما‭ ‬هي‭ ‬متوعكة‭ ‬أو‭ ‬منعها‭ ‬أمر‭ ‬ما‭. ‬عاودت‭ ‬المجيء‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬العصر‭ ‬فلم‭ ‬أرها،‭ ‬وأتيت‭ ‬ليلاً‭ ‬فلم‭ ‬أجدها‭ ‬أيضاً‭. ‬فقلت‭ ‬حتما‭ ‬ستأتي‭ ‬غداً‭ ‬وأراها،‭ ‬وأعطيها‭ ‬المقسوم‭.‬

لكنها‭ ‬لم‭ ‬تأت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬فذهبت‭ ‬بي‭ ‬الوساوس‭ ‬إلى‭ ‬متاهات‭ ‬معتمة‭ ‬حول‭ ‬مصيرها‭. ‬حاولت‭ ‬التخفيف‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬وقلت‭: ‬الغائب‭ ‬حجته‭ ‬عنده‭ ‬وسأنتظر‭ ‬حتى‭ ‬الغد‭.‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬لم‭ ‬تأت‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬ولا‭ ‬الرابع‭ ‬ولا‭ ‬الخامس،‭ ‬وبهذا‭ ‬أغلقت‭ ‬قصتها‭ ‬وجعلتني‭ ‬أتوه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬الحيرة‭ ‬والحزن‭.‬

مايو‭ ‬2024

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا