أمرّ على هذا الشارع كل يوم. أمرّ عليه صباحاً وأراها جالسة بمحاذاة الرصيف، أمرّ في فترة العصر وأشاهدها ثابتة في مكانها، وأمرّ أحيانا في الليل فأجدها لا تزال هناك. جالسة خلف طاولة خشبية متواضعة وأمامها دلّة شاي، مع صينية صغيرة عليها أكياس بها ورق عنب وصينية أخرى عليها «حب الشمسي». أشفق عليها وأتساءل هل بلغت حالتها من الفقر والبؤس اللذين يرغماها على هذا العمل. هي امرأة تبدو في أواخر الثلاثينات، متدثرة بالكامل بعباءة سوداء وحجاب أسود، لا يظهر منها سوى وجهها الأبيض المتعب، المشوب بحمرة خفيفة ربما من كثرة تعرضها لأشعة الشمس.
ذات يوم انتابني فضول لمعرفة سرها فتوقفت بالقرب منها وترجلت من السيارة.
-السلام عليكم.
- عليكم السلام ورحمة الله.
- هل عندك كرك.
- نعم عندي.
- أعطيني كوباً واحداً.
- إن شاء الله.
استخرجت كأساً ورقياً صغيراً، صبت فيه الشاي وناولتني إياه.
- هل فيه سكر؟
- نعم لكن قليل.
- شكراً. كم سعره؟
- 300 فلس.
أخرجت محفظتي واستخرجت ديناراً واحداً وأعطيته إياها. أخذته ووضعته في درج الطاولة وراحت تبحث عن الفكّة.
قلت لها خلّي الباقي لك، فشكرتني بصوت مبحوح وخفيض.
غادرت المكان وأنا أفكر في هذه المرأة المكافحة التي رضيت بهذا العمل المضني والمحرج من أجل توفير قوت أولادها. لا شك أن زوجها رحل عن هذه الدنيا وتركها تصارع المحن لكي تؤمن حاجتها وحاجاتهم الملّحة، أو ربما هي امرأة مطلقة قذف بها زوجها المجرم إلى حافة الشارع لتصارع الآلام والظلم. شغلني حالها وصرت أفكر فيها وفي إزالة الكرب عنها.
في المرة الثانية سألتني هل تريد شاي كرك أم كستر بالحليب، قلت لها سأجرب الكستر هذه المرة. سكبت الكستر في الكوب الورقي وناولتني إياه.
أردت أن استفيض في الكلام معها لكنني خشيت أن تغضب أو تذهب بها الظنون.
سألتها هل عندك عيال فقالت عندي خمسة أطفال أكبرهم في الخامسة عشرة.
- وزوجك، ألا يعمل؟
- لا، إنه مقعد منذ ثلاث سنوات، بعد إصابته بالشلل في رجليه.
- أسأل الله أن يشفيه ويفرج كربته. هل تحتاجون إلى مساعدة، فلربما أستطيع مساعدتكم؟
شكرا... سأخبرك لاحقا.
في اليوم التالي مررت على نفس المكان ويا للعجب لم أجدها. فقلت لنفسي ربما هي متوعكة أو منعها أمر ما. عاودت المجيء في فترة العصر فلم أرها، وأتيت ليلاً فلم أجدها أيضاً. فقلت حتما ستأتي غداً وأراها، وأعطيها المقسوم.
لكنها لم تأت في ذلك اليوم، فذهبت بي الوساوس إلى متاهات معتمة حول مصيرها. حاولت التخفيف عن نفسي وقلت: الغائب حجته عنده وسأنتظر حتى الغد.
بيد أن المرأة لم تأت في اليوم الثالث ولا الرابع ولا الخامس، وبهذا أغلقت قصتها وجعلتني أتوه في عالم من الحيرة والحزن.
مايو 2024
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك