مقدمة:
في هذه المجموعة القصصية «تمر وجمر»، يقدم لنا الكاتب مشهداً أدبياً يتجاوز حدود المألوف، حيث تلتقي المشاعر المتناقضة؛ لتعكس تفاصيل الحياة بألوانها المتباينة، وفي هذه القراءة سأحاول إلقاء الضوء على لحظات النقاء والأمل، والظلال التي تخفي وراءها عمق الألم والمرارة، لنكتشف معا حقيقة أن الحياة تترك بصماتها على مشاعرنا كما يترك الضوء أثره على الظلال.
تجليات التباين وجماليات المفارقة
تتجلى بعض تناقضات الحياة في المجموعة القصصية كمرايا تعكس عمق التجربة الإنسانية، حيث تتشابك الآمال مع الآلام في نسيج متقن، وتبرز جماليات المفارقة كلمحات ساحرة تعري الحقائق المستترة، لتضفي على النصوص بعدًا فلسفيا، معبرا عن حجم الهوة العميقة بين المظهر والجوهر، الشكل والمضمون، الأفعال والأقوال، الوزن والقيمة، الظاهر والباطن، الشكلانية والعمق، العبادات والمعاملات، السر والعلن، القلوب والأبصار، الروح والجسد، القشور والمقاصد، والمبادئ النظرية والسلوك العملي... حتى أضحى مألوفاً لدينا أن نرى الضدين معاً؛ كالتناقض بين الفقر والغنى:
ففي قصة (سلمان وباخرة «جبل سورا») على سبيل المثال؛ يتجلى التباين بين حياة الطبقة العاملة وحياة الأغنياء والميسورين، فـ(سلمان) برغم عمله الجاد، يظل عاجزاً عن تحقيق أحلامه بالسفر، بينما الآخرون يتنقلون بحرية ويتمتعون بالحياة، يقول الشاعر/ جبران خليل جبران: (إنَّ في التمر نواةً.. حفظت سر النخيلْ/ وبقرص الشهد رمزٌ.. عن فقير وحقولْ)، هذا التباين يسلط الضوء على الفجوة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع، مما يعكس التناقض بين واقع (سلمان) المرير، الذي لسان حاله قول الشاعر/ ابن الرومي: (أرقتُ كأني بتُّ ليلي على الجمرِ) وأحلامه الكبيرة، التي يصدق فيها وصف الشاعر/ أحمد شوقي: (شَيّعـتُ أَحْلامي بقلبٍ باكِ)، والتباين بين المكانين: الباخرة التي تمخر عباب البحر دافعة للحلم والمغامرة والحرية والانعتاق، والرصيف الذي يظل ثابتا، معبرا عن حالة الشعور بالعزلة والقيود، التي يفرضها الواقع على (بطل) القصة.
كما يتجلى التناقض في العلاقات الاجتماعية – على نحو ما جاء – في قصة (سلاّمة وسعود الطيّب) على سبيل المثال؛ حيث يتم الكشف عن تصرفات الحاج سعود غير اللائقة تجاه سلاّمة؛ مما يعكس التناقض بين المظاهر المخادعة، والحقيقة الواقعة؛ وفي مثل هذا يقول الشاعر/ حمزة الملك طمبل:
أنا لا تأخذ المظاهر مني *** لا ولا يخدع الطلا أبصاري.
يظهر الحاج سعود في بداية القصة كإنسان متدين وطيب، ولكنه يخفي رغبات وسلوكيات غير لائقة، هذا التناقض بين المظهر والواقع؛ يعكس تعقيدات العلاقات الإنسانية، ويزداد التناقض غرابة في نهاية القصة؛ حيث يتم الدفاع عن المذنب، ومعاقبة كاشف الحقيقة، نتيجة قوة التأثير الاجتماعي، والضغوط التي يمكن أن تقلب الحقائق، وتُعيد تزييفها للحفاظ على الوضع القائم.
وفي قصة (كمال وصرخة دلال)؛ تجسيد للثنائية بين الكمال والنقص؛ (كمال) يمثل حالة الكمال التي تحولت إلى نقص بسبب المرض، ولسان حاله ينطق بقول الشاعر/ الشهاب المنصوري:
(رحل) الكمال فقالوا *** ولى الحجا والجلال
فللعيون بكاءٌ *** وللدموع انهمال
وفي فؤاديَ حزن *** ولوعة لا تزال.
وصرخة (دلال) تعبر عن المعاناة الناتجة عن هذا النقص، وحرمان (كمال) من الكمال الذي تنشده!
إن هذه مجرد إشارات تعكس بوضوحٍ؛ فداحة التناقضات وجماليات التعبير عنها؛ مما يؤكد العلاقة الوثيقة بين عنوان المجموعة ومحتواها القصصي.
اللمسات البلاغية في أسلوب السرد والتعبير
تتجلى براعة الكاتب في توظيف الأساليب البلاغية المتنوعة لإثراء نصوصه، من خلال استخدام التشخيص والتجسيم والاستعارات والتكرار والتشبيهات والرموز، التي تعزز من جمالية السرد والتعبير، على نحو ما ورد في قصص المجموعة، ومنها قصة (أمّ الزّرانيق وريح الصّرصر) على سبيل المثال:
التشخيص: «وأمّ الزرانيق ثابتة في موقعها مثل الجبل، تحتضن أبناءها بأمن وسلام». (الصفحة رقم 65)، تشخيص يُعطى المدينة صفات إنسانية.
التجسيم: «ريح صرصر عاتية، ستكون شديدة السّرعة، ساخنة ومحمّلة بالأتربة وحصيات صغيرة مدبّبة وملتهبة مثل الجمر» (الصفحة رقم 62)، تجسيم الرياح وإعطائها صفات ملموسة.
الاستعارات: «تقلع الأخضر وتطحن اليابس» (62)، استعارة لتوضيح القوة التدميرية للرياح.
التكرار: «يهلك فيها الكهول، تذوب فيها الرجال مثل ذوبان السمن فوق النار، تطرح فيها النّسوة حملهن» (62)، التكرار في جملة (فيها) لزيادة التأكيد على الدمار الشامل.
التشبيهات: «تذوب فيها الرجال مثل ذوبان السمن فوق النار». (62)، تشبيه ذوبان الرجال بذوبان السمن.
الرموز: «أمّ الزرانيق»، قد ترمز إلى الوطن أو الأرض الأم، و«ريح الصرصر»، ترمز إلى المصاعب أو الكوارث التي تهدد المجتمع.
تفرد البعد الدلالي لعناوين القصص
إن اختيار الكاتب لأسماء الشخصيات كعناوين لقصصه، له دلالات متعددة؛ منها: تسليط الضوء على دور الشخصية في القصة، مما يشير إلى أهميتها في تطور الحبكة، أو التأثير على الأحداث فيها، فضلا عن أن لكل اسم دلالة رمزية أو تجسيد معين، أو سمات شخصية أو صفات مميزة، تكون بمثابة تلميح لمحتوى القصة، ووسيلة تسهم في تعميق فهم القارئ لها، وتوضيح الرسائل المركزية فيها.
خاتمة
كما يمتزج (تمر) الحياة بوهج (الجمر)، يقدم لنا الكاتب في مجموعة (تمر وجمر) قصصاً تُحلق بنا عبر مسارات متنوعة من التجربة الإنسانية، في لوحات أدبية مفعمة بالأمل والضياء، الوجع والشقاء، معبرة عن الحياة بتفاصيلها المتناقضة بين الحلاوة والمرارة، وعاكسة قسوتها وجمالها في آن واحد؛ لتبقى في الذاكرة بصمة من النقاء والعمق، لكاتب مبدع استطاع أن يكشف النقاب عن (جمر) أعماق المشاعر الإنسانية، وينسج منها قصصا كـ(التمر) في حلاوتها، بمهارة وحرفية واقتدار، عبر التباين بين الهدوء والثورة، البساطة والعمق.
{ عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك