حينَ يُصافحُ «النقد» صديقهُ «النص الأدبي» بمودَّة، ويؤدي واجبهُ في تقديمه للمُهتمين بالأدب بأسلوبٍ يتّسمُ بالرُّقي مُرتديًا أفخم أزياء البلاغة، لا بد أن يفوز كلاهُما في مضمار القفزات الإبداعيَّة العالية، وهو ما حدثَ خلال الأمسية التي أقامها «مركز تمكين شباب جدحفص» مُستضيفًا قراءة نقديَّة للبروفيسور «علي أحمد عمران» بعنوان: «اغتراب الأنا الشاعِرة في ديوان/ خدوش في زُجاج».
عندما يحضر الشِّعرُ في قاعةٍ تبدأ الأجواء فيها بالتحليق خارج حدود الزمان والمكان لينقلب الفصل فيها ربيعًا، وكم يزدهرُ هذا الربيع حتى أقصى درجات عنفوانِه إن اجتمعَ على مائدته شاعرًا بموهبةٍ فريدةٍ مثل «جعفر المدحوب» برفقة مجموعته الشعرية «خدوشٌ في زُجاج»، وناقدًا يلتقي في شخصيَّته الولعُ بالأدب وعشقُ علم البديع والبيان إلى جانب خبرةٍ رفيع المستوى بأصول النقد كالبروفيسور «علي أحمد عمران»، ويكون الأستاذ «زكريا رضي» جسر الوصل الذي يُدير الأمسية.
المجموعة الشعريَّة التي احتضنَت 23 نصًا شعريًا تم استقبالها كوليمة أدبيَّة دسمة لشهيَّة النقد، إذ ارتأى البروفيسور علي أحمد عمران أن يدرس تلك المجموعة في محاولة لمُحاصرة العنوان: «خدوش في زُجاج» بمحاور أولها: ظاهرة الاغتراب في خواطره، ثانيًا: صنوف الاغتراب، ثالثًا: الموقف من اغتراب «الأنا»، رابعًا: الأساليب الفنيَّة المُستخدمة لإبراز ظاهرة الاغتراب، مُشيرًا إلى أن دراسات وبحوث كثيرة اهتمت بدراسة «الاغتراب» لا سيما «اغتراب الأنا» تحديدًا، وظهوره في الأدب قديمًا وحديثًا، كما أوضحَ أن الدراسة التي يُقدمها في تلك الأمسية هي مُحاولة جادة لمُقاربة «الأنا المُغترِبة» وفق ظهورها في شهر جعفر المدحوب.
وعن «تجليات الأنا الشاعِرة» المكتملة في تلك المجموعة فقد أوضح أن رؤية الفكر الفلسفي في اليونان القديم قد بُنيت على ثُنائية الإنسان والطبيعة، باعتبار أن الإنسان مركز الكون ومقياس الأشياء، وأن حقيقته أنه عقلٌ أو صورةٌ في مُقابل الطبيعة، أما رؤية الفكر الفلسفي الحديث للعالم فقد ارتبطَت بـ«الأنا»، إذ بدأت الحداثة بإعلان تصور جديد لم يعُد الإنسان في صورته القديمة قادرًا على التوافق معها، ويتمثل اغتراب الأنا في القهر والهزيمة والإحساس بالاستلاب والضياع، من هُنا تم اختيار تناوُل جدليّات غُربة الأنا الشاعِرة في المجموعة الشعرية «خدوش في زجاج» من خلال وقفتين: وقفة مع العنوان، ووقفة مع الفواتِح والخواتِم. فالعنوان يُعد مدخلاً غاية الأهمية؛ فهو ضروري لكشف عوالم النص الشعري، وفُرصةٌ كُبرى يُقدمها الشاعر لتشكيل أرضيَّة تأويليَّة مُشتركة مع القارئ، يوظفها توظيفًا حسنًا من خلال تقديم مجموعة من الافتراضات، وعنوان «خدوش في زجاج» هو عنوان قصيدة من قصائده، أوردها الشاعر في القسم الثالث المعنون بعنوان: «عبثًا أحاول».. والخدوش تعبيرٌ عن الذات الضائعة أو عن الحيرة التي انتابت الشاعر، أو كما يقول هو في مُقدمة مجموعته: «إلى الذينَ أرهقتهم الذاكرة، أو خذلتهم الأحلام، أو انطفأت خطواتهم على قارعة الحياة».. وأضاف الناقد علي عمران مؤكدًا أن كل قصيدة من قصائد «خدوش في زجاج» هي صرخة احتجاجيَّة للذات الضائعة المُلتبسة بالحيرة وعدم وضوح الرؤية، تهدف إلى لفت الانتباه وجذب الأسماع لأسئلة ليس لها إجابات، فالخواتيم في مجموعته لا تنتهي بنتيجة ولا بقرارٍ مصيري.
أما بشأن الوقفة مع فواتِح القصائد وخواتمها؛ فقد رأى البروفيسور عمران أن الشاعر قد تطرَّقَ إلى موضوعاتٍ منها الضياع والاغتراب والحزن والبحث عن الذات، على أن الثيمة الأبرز في مجموعته هي الاغتراب الذي عبر الشاعر عنه في عدة قصائد منها «بي ما بي»، «في فمها اعتذار»، «أيها الطفل»، «الهدهد الضائع»، «لعنة البحَّار»، «مرايا مُهشمة»، «عبثًا أُحاول».. وغيرها، واعتبر أن «القصيدة المدحوبيَّة» – على حد تعبيره النقدي – تمثل مشهدًا تفاعليًا جدليًا يحمل مجموعة من الأسئلة في افتتاحيات قصائده.
في الخِتام أفصح الناقد عن رأيه الذي اعتبر المجموعة قد حققت لصاحبها التألُّق، وعكَسَت ملامح القصيدة العربيَّة المُعاصِرة، حيثُ راهنَت على حُسن الإلقاء، وجودة التراكيب، وجماليَّة الصور، ولم تغفل الاعتناء بالرسائل الشعريَّة ذات الصِّلة بالمقصود من القول..
من جانبٍ آخر أعرَبَ البروفيسور علي أحمد عمران عن كون تحليل الخطاب الشعري العربي المُعاصِر في حاجة ماسَّة إلى نقدٍ فني بمُستجدات الطرائق واستعمال رأس المال المعرفي، وحثَّ المُهتمين بالشأن النقدي على توجيه دفَّة اهتمامهم نحو المُنجز الأدبي البحريني لينال نصيبهُ المُستحق من تسليط الضوء على زواياه المُتفرِّدة وأسماء مُبدعيه.
تجدر الإشارة إلى أن البروفيسور علي أحمد عمران من نُخبة المُبدعين البحرينيين الأكاديميين في المجال الأدبي والنقدي، نال درجة دكتوراة الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من تونس عام 2006م، له أكثر من 30 كتابًا تتنوع مضامينها بين اهتماماته اللغوية والأدبية والنقديَّة، وفاز مؤخرًا بجائزة المرحوم الأستاذ الدكتور جمال الدهشان لعام 2024م تحت شِعار «أفضل باحث عربي مُتميز» وذلك ضمن فاعليات المؤتمر الدولي التاسع لمعامل التأثير العربي «النشر العلمي وتحديات الذكاء الاصطناعي» المُنعقد في جامعة أبو ظبي الإماراتيَّة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك