يقول السياسي الأمريكي الشهير ثودور روزفلت: «المحن والشدائد تخضع وتروض العقول البسيطة.. لكن العقول العظيمة ترتفع فوقها!».
نعم، فحتى في أسوأ المحن قد تجد خيرا، إذا كنت تتمتع بعقل عظيم، وذلك لقدرتك الذهنية والنفسية على المواجهة، انطلاقا من القناعة بان الحياة ليست دائما كما تتمنى، وبأن لا شيء يحدث للإنسان إلا وقد منحه الله القدرة على تحمله، وبأن كل ما يستلزم منا هو التحلي بمهارات المقاومة كالقوة والصبر والتفاؤل بأن القادم أجمل بمشيئة الخالق.
هذا بالفعل ما ينطبق على تجربة هذه السيدة، التي صنعت من محنة مرض وفقدان ابنها منحة وحافزا للعطاء والمواصلة في الحياة بكل قوة وصلابة، حتى تركت بصمة خاصة في عالم النساء تضاف إلى رصيد الإنجازات المشرقة والمشرفة للمرأة البحرينية.
سوزان عبدالله علي، بطلة قصة عملية وإنسانية من طراز خاص، فقد كانت أول بحرينية تؤسس وتقود مركز عمليات مطار البحرين الدولي وبكل مهارة، حيث أثبتت قدرة فائقة على العطاء والتميز في هذا الميدان، ولم تحرص على المنافسة بقدر إصرارها على تحدي ذاتها، وتحقيق الألفة والتعاون بين فريق عملها، ومن ثم الإنجاز والإبداع.
لا شك أن الرحلة كانت طويلة وشاقة، ولكن الوصول كان ممتعا للغاية، فما أجمل حصاد السنين بعد التعب والجهد، أما الأجمل فهو الإصرار على المواصلة حتى بعد التقاعد، الذي كان بالنسبة إليها بداية لحياة جديدة وليس مجرد محطة للسكون والراحة.
«أخبار الخليج» توقفت عند محطات المشوار في السطور التالية:
بداية الرحلة؟
البداية كانت مع أحلام الطفولة، فقد كان حلمي دوما منذ الصغر أن أصبح طبيبة أو مهندسة في المستقبل، وبالفعل في نهاية الدراسة الثانوية أقدمت على دراسة تخصص الهندسة، الذي كان يتماشى كثيرا مع شغفي بكل ما يتعلق بالأمور الهندسية، حتى أنني كنت أعشق العمل بيدي، وإصلاح بعض الأشياء المنزلية بنفسي، وقد بدأ مشواري مع هذا المجال بالدراسة بجامعة البحرين، ثم أكملته في بريطانيا.
ولماذا بريطانيا؟
لقد أدركت أن إكمال الدراسة في بريطانيا سوف يضيف لي الكثير من الخبرات الجديدة ويطور من شخصيتي، خاصة من خلال تجربة الغربة وتحقيق الاستقلالية والانفتاح على ثقافات مغايرة، وعملت أثناء الدراسة كوسيط للتواصل مع الطلبة نظرا إلى تمتعي بروح القيادة.
بعد التخرج؟
عقب التخرج من الجامعة في بريطانيا والعودة إلى وطني، عملت كمتدربة في شؤون الطيران المدني بالبحرين بوزارة المواصلات، وتنقلت بين عدة أقسام منها الهندسة والصيانة بمطار البحرين الدولي، وذلك مدة أربعة أشهر، ثم التحقت بالعمل لدى أحد المقاولين الذي كان يعمل بعدة مشاريع تخص المطار، وعملت في إحداها الذي يتعلق بساحة المطار، وبقيت ثلاث سنوات في هذا العمل ثم انتقلت إلى العمل بوزارة الكهرباء بقسم التخطيط مدة ثماني سنوات، بعدها تلقيت عرضا مغريا من شركة أجنبية للاستشارات الهندسية وشاركت في تنفيذ أكثر من 15 مشروعا كبيرا ومهما في مملكة البحرين.
المحطة التالية؟
بعد ذلك انتقلت إلى العمل بإدارة جزيرة ريس، وتقلدت منصب مدير المشاريع وإدارة المرافق، ثم جاء الوقت كي أحقق شغفي الذي يتمثل في العمل بالمطار الذي شهد بدايات مشواري العملي، فكم تمنيت الرجوع إليه خلال سنوات البعد عنه، وخاصة حين أصبح تحت إدارة شركة مطار البحرين الخاصة، وعينت في البداية مدير الهندسة والمرافق، وكنت أول بحرينية تحتل تلك المكانة.
أهم الإنجازات في تلك الفترة؟
لقد قضيت ست سنوات في نفس الشركة، استطعت خلالها تحقيق الكثير من الإنجازات، خاصة فيما يتعلق بوضع استراتيجيات تخص مجالي الهندسة والصيانة، وقد شجعني كثيرا أحد المديرين التنفيذيين وهو ألماني الجنسية وذلك لإيمانه بقدراتي ومؤهلاتي حتى أنه عرض عليّ فكرة تأسيس مشروع مركز عمليات مطار البحرين الدولي، وكانت أهم نقلة في مشواري.
حدثينا عن هذه النقلة؟
كم كنت فخورة بأن أكون أول بحرينية تؤسس وتقود مركز عمليات المطار، وهي خطوة غيرت مسار عملي من مجال الهندسة إلى عمليات المطار، ومن خلال هذا الموقع ربطت الهندسة وإدارة المشاريع في قطاع الطيران مع عمليات المطار، وقد أنجزت المشروع من الصفر وبمنتهى الكفاءة، وأذكر أنني كنت المرأة الوحيدة في مركز العمليات، وكان ذلك من أهم التحديات التي واجهتها.
كيف واجهتِ هذا التحدي؟
لا شك أنني واجهت تحديات كثيرة عبر مشواري، ولكن يبقى أصعبها وأهمها كوني امرأة تسند إليها مهمة تأسيس وإدارة مركز عمليات المطار، ورغم ما واجهته من صعوبات بسبب ذلك فإنني تغلبت عليها بالتحلي بمهارة القيادة، وبقراري بألا تهزني أي ريح، وبشيء من الصبر والمثابرة والاجتهاد استطعت ان أمتص أي غضب ممن حولي، وواصلت مشواري بكل قوة إلى أن أصبحت الأجواء غير محفزة على مواصلة العطاء فقررت هنا الانسحاب والتقاعد المبكر الذي مثل لي بداية حياة جديدة.
ماذا عن تلك البداية الجديدة؟
كان قرار التقاعد المبكر بالنسبة لي بداية جديدة لمواصلة العطاء، وتقديم صورة مشرفة للمرأة البحرينية خارج وطني، فقد حدث أن حصلت على عروض كثيرة خارج البحرين قبل التقاعد أي أثناء عملي بالمطار، لكني كنت دائما أفضل خدمة وطني والعمل له ومن أجله، ومؤخرا قبلت أحد العروض في المنطقة للعمل بدوام كامل بعد أن عملت فترة كاستشارية عن بُعد لشركات خارجية، وكلي حماس وشغف وطاقة لاستكمال المسيرة واستئناف الرحلة في موقع آخر لشعوري بأنني مازلت قادرة على العطاء والتميز.
أهم درس تعلمته عبر مشوارك؟
لقد علمتني الحياة من خلال خبراتي المتراكمة عدم التفاني في العمل على حساب نفسي، فهذا ما حدث معي بالفعل سابقا، فكثيرا ما جاء طموحي العملي على حسابي كإنسانة رغم حرصي على الموازنة بين مسؤولياتي كزوجة وأم وامرأة عاملة، فعلى سبيل المثال كنت أحيانا أعمل مدة 14 ساعة يوميا، وألتزم بالدوام حتى لو كنت مريضة، ولكني كنت محظوظة بزوج داعم لي طوال الوقت، وهو من ساعدني على تحقيق تلك الموازنة بين مسؤولياتي، وكان لي السند خاصة أثناء مروري بالمواقف الصعبة والمريرة.
أصعب تجربة؟
بالطبع يمر أي إنسان بكثير من المواقف والتجارب الصعبة عبر مسيرته، ولعل أشدها بالنسبة لي مرض ووفاة ابني عند عمر عشرين عاما، وذلك أثناء فترة عملي في مبني المطار الجديد، وأستطيع أن أجزم هنا بأنه كان يمثل أكبر حافز لي في الحياة بل ومصدر قوتي، ويمكن القول بأنه كان وراء كل ما حققته اليوم، وأذكر أنني عدت إلى الدوام بعد وفاته بثلاثة أيام اعتقادا مني بأن العمل سوف يخفف عني مرارة المحنة، ولكني اكتشفت لاحقا أنه اعتقاد خاطئ.
كيف؟
حين قررت استئناف العمل رغم الحزن والمرارة بهذه السرعة أدركت أن ذلك خطأ، لأنه يجب على أي إنسان أن يأخذ وقته الكافي لعبور أي ظروف صعبة يمر بها، وذلك حرصا على صحته الجسدية والنفسية، وهذا ما تعلمته لاحقا عبر مشواري ومن خلال تجاربي الإنسانية التي مرت بي، ولذلك قررت العمل بهذا المنطق بعد التقاعد وأن أضع الاهتمام بنفسي في مقدمة أولوياتي.
ما هي تجربتك مع الكوتشينج؟
أثناء عملي في مطار البحرين الدولي قررت الحصول على شهادة مدرب محترف في القيادة وتطوير الأداء، وذلك بهدف تنمية الذات، إضافة إلى تعلم مهارات جديدة تفيدني على المستوى الشخصي، وكذلك تفيد غيري أثناء تعاملي مع الآخرين، وقد طبقت ما تعلمته في هذا الحقل عمليا مع فريق العمل، وكان ذلك في وقت عملي بقسم الهندسة والصيانة، وكانت النتيجة مبهرة، وقد أيقنت مع الوقت والتجربة أنه من المهم بشدة أن ينتهج أي قائد القيادة بإنسانية، بمعنى مراعاة ظروف الموظف الخاصة حين تنعكس على أدائه في بعض الأحيان، وليس فقط التعامل معه بأسلوب العقاب، فقد كنت دوما بمثابة الأم للعاملين معي، وهذا ما يجب أن يتحلى به أي قيادي حين يواجه مشكلة تراجع الإنجاز لأي موظف.
حلمك القادم؟
أحمد الله سبحانه وتعالى على تحقيق الكثير من الأحلام والطموحات والإنجازات التي أفخر بها، وجعلت مني مرآة مشرقة لوطني، والدليل هو تلقي الكثير من العروض الخارجية للاستفادة من خبراتي في دول أخرى، وللمشاركة في وضع استراتيجيات تخص مجال عملي هناك، وأتمنى أن أواصل المسيرة بنفس الحماس والعطاء والتميز، أما على الصعيد الإنساني فكل ما أطمح إليه هو أن أرى أحفادي قريبا، وأن يصل أبنائي إلى أعلى المناصب، وأن يتخذوا مني قدوة لهم في الصبر والمثابرة والقوة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك