يقول بابلو بيكاسو: (الفن جمال ومحبة وأخلاق ورسالة وصدق)
تشتبك الفنون الإبداعية بالعلوم المجاورة ولاسيما علم النفس ونظريات التربية المتنوعة ، ومنذ القدم كان العامل النفسي من اهم العوامل التي يرتكز عليها الخطاب الفني منذ التنظيرات الأولى لأرسطو طاليس في فن الشعر ورؤيته عن مفهوم وفلسفة (التطهير) التحرر من المشاعر الضارة والمؤلمة، ان العلاج بالفن طريقة مبتكرة إبداعية راجت في السنوات الأخيرة في المجتمعات الغربية وبخاصة عند أولئك الذين يؤمنون برسالة الفن بجانبها السيكولوجي والسيسولوجي، ان هذه الطريقة هي محاولة وسعي جاد لخلق توازن من النواحي الحسية والتعمق نحو الذات ومدركاته ومعرفة ما يجول في خواطر الانسان عبر استخدام وسائل الفنون التعبيرية، مثل تبادل الأدوار وتجسيد الاستعارة أو الحركة أو سرد الحكايات ، وتتنوع مسارات العلاج بالفن من خلال تعدد هذه الفنون ووسائلها وأساليب تعبيرها ومنها (المسرح، الفنون التشكيلية، الموسيقى) فعام 1920 تبنى المعالج النفسي (مورينو) مفهوم العلاج بالدراما (السيكودراما) في محاولة لمسرحة المشاعر من اجل مساعدة المضطربين نفسيا من اجل تفريغ مشاعرهم وانفعالاتهم عبر تجربة أداء الأدوار التمثيلية التي تتصل بالمواقف التي مرت بهم، أي حاول ان يخلص هؤلاء من الكبت والغضب والحزن والذكريات المؤلمة وربما هذا يتسق مع التطهير الارسطي ولكن بمفهوم اخر يتعلق (بالتجربة الفردية للمتضرر ذاته) ان العلاج بالدراما أو ما يصطلح عليه السيكودراما سواء النفسية أو التربوية شهدت مجالاً تطبيقيا للعلاج النفسي والسلوكي وحتى التثقيفي بوصفه من أساليب العلاج المبتكرة المرتكزة على طريقة (ليفي مورينو) والذي أسس مسرحا في فيينا لعلاج الأطفال عبر الدراما؛ ان ذلك الامر يؤكد العلاقة الوطيدة بين علم النفس والفن المسرحي في محاولة التأثير بالفرد (المتلقي) عبر التواصل الادائي واطلاق العنان للمشاعر الذاتية من اجل الخلاص من كل ما هو ضار من الناحية النفسية والشعورية على هذا الفرد، وهو يتيح المجال لكل المضطربين سلوكياً سواء طلبة المدارس أو الأطفال أو ذوي الاحتياجات الخاصة لأطلاق العنان لتعبيراتهم الانفعالية للخلاص من التوترات النفسية والرهاب ومحاولة القدرة مجددا على التواصل الفعال مع الاخر في محاولة لتحقيق مبدأ الاندماج مجدداً، لذا فقد عرفت (الجمعية البريطانية للمعالجة بالفن) العلاج بالفن بأنه هو شكل من اشكال العلاج النفسي الذي يستخدم وسائل الاعلام الفن كوسيلة اساسية للتواصل. وقد تمكن الباحثان ديفيد كيبر وتيموثي ريتشي من قياس مدى فعالية السايكودراما وخاصة عبر مبدأ العفوية والتي ترسخ تجربة انثيال الجسد والحوار للفرد وبالتالي الارتجال العفوي بما يريد ان يقول دون أي قيود وهو اشبه بثقافة (الاعتراف) والاقرار بالذنب للخلاص من الألم حسب المفهوم الديني.
اما العلاج بالفن التشكيلي عبر الرسومات والألوان والخطوط فتظهر مرجعيات هذه الطريقة بشكل علمي من خلال دراسات عالم النفسي (سيجوند فرويد) الذي كشف عن بعض الخطوط الدالة على ماهية الفن، وقدرة الفنون التشكيلية على احتضان مشاعر نفسية ذات صلة مباشرة بالفنان تكشف عن شخصيته النفسية. كما أطلق الفنان البريطاني أدريان هيل مصطلح العلاج بالفن في عام 1942 مكتشفاً الفوائد العلاجية للرسم والتلوين في فترة نقاهته عندما كان يتعافى من مرض السل في المصحة.
فقد كتب أن قيمة الفن تكمن في العلاج ووثق طريقته واعماله في كتابه الفن ضد المرض. ان العلاج بالفن التشكيلي احد اهم الطرق تطبيقاً في المجتمعات الأوروبية سواء في المصحات النفسية أو المستشفيات وبخاصة عند الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى الذين يعانون من رهاب ما بعد الصدمة أو الضغوطات النفسية ما بعد الصدمة، وثمة استراتيجيات عدة للعلاج بالفن التشكيلي ومنها التعبير الحر أي يترك للمريض أو الطفل أو المصاب حرية التعبير التامة والمطلقة عما يرسم ويجول في ذهنه من أفكار فيعبر عن أفكاره وانفعالاته المكبوتة للتنفسي عنها لاحقا بمرحلة العلاج اذ يسهم هذا النشاط بكسر حاجز التخويف وتخفيف القلق والقدرة على التعبير، كما يتم الاسترخاء والتخيل الموجه في العلاج بالفن التشكيلي لكي يصل الطفل أو المريض لأقصى حالات الاسترخاء جسديا وذهنيا، ومساعدة المرضى على التنظيم والترتيب من خلال نوعية العمل الفني (الكولاج) بإعطاء الطفل مجموعة أشياء أو صور والدفع به بخصوص تنظيمها وترتيبها جماليا ناهيك عن الدفع بالطفل والمريض إلى تبني العمل الجماعي من خلال رسم اللوحة الجماعية وزرع الثقة والتكافل والتكاتف ومحاولة معرفة الفروقات الفردية بين أولئك المرضى أو الأطفال من خلال ما تتركه رموزهم وبصمتهم الخاصة بهذا العمل الجماعي، والاهم من كل ذلك عملية اختيار (الألوان) والتي لها فاعلية سيكولوجية تدل على مشاعر المرضى التي يعيشونها (الأسود ودلالاته) (الأبيض ودلالاته) (الأحمر ودلالاته) (الرمادي ودلالاته)( الأصفر ودلالاته) وهكذا دواليك، ان هذه التقنية العلاجية ممكن ان تكون ناجعة كما حصلت في المجتمعات الغربية بخاصة على أطفال التوحد ومراكز العلاج النفسي والتأهيل من المخدرات وذوي الاحتياجات الخاصة بخاصة ان كانت الاعمال الفنية ممكن ان تكون في المستشفيات ومراكز الأطفال للتخفيف من حدة التوتر لدى الأطفال وبقية المرضى أو حتى السجناء من اليافعين لان تلك الاعمال التشكيلية تتميز بهيمنة الألوان ورمزيتها التي تنعكس على نفسية المتلقي (الرائي). بل ممكن استخدام مثل تلك الاعمال في دار الايتام ودار رعاية المسنين وغيرها من الإمكان التي تحتاج إلى الدعم النفسي المعنوي الاعتباري لكي يكملوا مشوار حياتهم من دون مشاعر سلبية، كما اطلق العالم الفرنسي جان دوبوفيت ما يصطلح عليه (فن البروت) مركزاً جهوده على وظيفة الممارسة الفنية على مرضى اللجوء الذين يعانون من الجنون لان العلاج بالفن التشكيلي يقوم على وصف الانفعالات النفسية وحتى البدنية من خلال (الخطوط) وممكن تلمس رمزية تلك الخطوط وقراءتها واحالتها إلى (معكرات الصفو والتأثير الحياتي السلبي على هذا الشخص) وبالتالي الوصول إلى عمق المشكلة النفسية ومحاولة معالجتها، فما الفن الا تعبير عن مكامن الذات الداخلية، ان العلاج بالفن حقيقة علمية لا وهم وبدع لتعزيز شأنية الفن وصناعه، ففي المجتمعات الغربية يوجد عدد من الجامعات المهتمة بالعلاج بالفن سواء اكان الفن الموسيقي أو الرقص والحركة والدراما والفنون التعبيرية المتنوعة وهناك برامج مهمة للعلاج بالموسيقى معتمدة في تلك البلدان من جمعيات تخصصية فهناك ما يطلق عليه (التحالف الوطني لعلاجات الفنون الإبداعية) فلا يمكن استخدام العلاج بالفن الا من خلال المرخصين بهذا الخصوص والقادرين على عملية تقديم الفن بصورة علاجية إلى الأفراد المصابين والأطفال.
اما العلاج بالموسيقى فهو من الطرق التي تتسم بطابعها الحسي المباشر مع المتلقي فهي ممارسة شاملة لكل الاحتياجات العاطفية والنفسية وحتى التواصلية والحسية والحركية والسلوكية التي تتصل أحيانا بعمق الذات والروح، وكما يقال فالموسيقى غذاء الروح، فهي لديها قدرة على تخفيف المشاعر الغاضبة المتشنجة وتغسل الروح من كل مادياتها الحياتية وتأخذ الانسان إلى عوالم الرقة والعاطفة نظراً لدورها العاطفي الشفاف، والعلاج بالموسيقى حسب جمعية العلاج بالموسيقى الأميركية AMTA فهو يقدم وسيلة للصحة العقلية عبر العملية الإبداعية وتذوق الفنون، كما يمتلك الموسيقي البريطاني نايغل أسبورن سبق ابداعي في العلاج بالموسيقى فهو يرى: أنه ما من تدخُّل لتجاوز الصدمة يترك أثره على الجهاز العصبي والصحة النفسية أكثر من الموسيقى. وقد عمل اسبورن في عدة مناطق فيها نزاعات وعالج العديد من اللاجئين من خلال الموسيقى فهو يسعى من خلال الموسيقى ان يستخدم الأثر في الفكر والروج لتجاوز التحديات النفسية وإعادة التوازن للأفراد الخارجين من حروب دامية فهذا المتخصص يرى ان الموسيقى تساعد على ضبط الأنظمة الدماغية المتأثرة بتبعات الصدمات التي تسببها تلك الحروب مما يساعد الأطفال على كسب الثقة وتعزيز مهاراتهم السلوكية للتواصل بسهولة مع الاخرين. ان استخدام الفن في رسم مسارات حياة الافراد ضمن اليات واستراتيجيات عملية بناءة تسهم في توعية الانسان فكرياً وتغذيه روحياً من أهم رسائل الفنون المختلفة وممكن تطبيقها بشيء من الاهتمام والتركيز واللجوء إلى التخصص في رياض الأطفال وحتى المدارس وهي مهمة حيوية تكمن على عاتق المؤسسات الرسمية أولاً وعلى الطبقة الثقافية ثانياً والمهتمين بالفنون ووظائفها على المجتمع بطريقة أكثر تركيز لترسيخ الجهود الرامية لعكس الصورة الإيجابية للفن، لا التركيز على الابتذال الذي تقدمه بعض الفنون في الآونة الأخير. عسى ان تجد رسالتنا هذه اهتمام المعنيين في مناطقنا العربية ولاسيما في بلدنا العراق الذي مر بالعديد من المشكلات والأزمات التي تركت أثرها على الأفراد كافة.
{ كاتب أكاديمي عراقي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك