يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «ما يصيب المسلم من نصب (تعب) ولا وصب (وجع أو ألم) ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه»!
نعم، ثمرة الوجع والصبر الطويل عليه هو النصر والفرج والثواب، فعندما يبتلي الله عز وجل إنسانا بالمرض عليه ألا يجزع ولا يسخط بل يرضخ لمشيئته ويرضى، وهذا ما أمرنا به ديننا الحنيف، فلعل الألم يحمل في طياته خيرا ومنحة، وتلك هي قناعة هذه الأم التي اختبرها القدر بمرض ابنتها وبإعاقة الأخرى، ومع ذلك لم تهن قواها، بل قاومت وصارعت وصمدت وانتصرت في معركة الحياة.
أمل علي عبدالله عضو منصة الإبداع العربي لتمكين وإبراز المبدعين العرب، التي أسسها من البحرين المدرب سمير نور الدين عام 2020، أم بطلة، صاحبة تجربة حياتية أثبتت من خلالها صحة ما يقال إن هناك حقيقة لا يختلف عليها اثنان وهي قدرة النساء على التحمل والصبر التي خصهن الخالق بها، لتسطر قصة صراع وكفاح فاقت كل التوقعات.
هي ترى أن المرض يغير صاحبه فيصبح كل شيء في عينيه مختلفا، بل يتحول مع الوقت إلى تحد لا مفر أمامه سوى مواجهته بكل قوة وصلابة، فهو يخبره بحجم ما يملكه من نعم، وهذا ما خلصت إليه عبر تجربة ابنتيها مع المرض والاعاقة العضوتين بمدرسة دينا كانو المصغرة وبمبادرة ناصر.
حول هذه التجربة الإنسانية بامتياز كان الحوار التالي:
حدثينا عن طفولتك؟
طفولتي كانت عادية وسعيدة وخاصة أنني أنتمي الى الزمن الجميل، الذي يغلب عليه البساطة في كل شيء، والمفارقة العجيبة أن حلمي في تلك الفترة كان غريبا نوع ما، وهو أن أكون مثل حليمة السعيدية مرضعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي رمز للعطف والحنان والخير والعمل الصالح، وهي أمور تتماشى كثيرا مع طبيعتي، وبالفعل قمت بإرضاع بعض أطفال العائلة، وقد صادتني ظروف صحية خاصة بوالدي جعلتني اتوقف عن الدراسة الجامعية مدة عام تقريبا، بعدها التحقت بمعهد البحرين للتدريب المهني وحصلت على دبلوم معالجة البيانات في مجال الحاسب الآلي.
بداية رحلتك مع مرض مريم وآمنة؟
بعد التخرج في المعهد مكثت في المنزل، حيث تزوجت وأنجبت طفلي الأول عبدالله ثم عيسى، وبعده بخمس سنوات ولدت ابنتي مريم في الشهر الثامن من الحمل وعاشت حياتها بشكل طبيعي حتى بلغت 13 عاما، وهنا بدأت رحلتها مع المرض، حيث تم تشخيصها في البداية بأنها مصابة بمرض الذئبة الحمراء، وبعد ذلك قيل إنها تعاني من مرض مناعي غير معروف، وقد مرت بمراحل صعبة للغاية، حتى أن الغدة النخامية توقفت عن العمل في وقت من الأوقات، وهي تتعرض حاليا لنوبات متكررة من هبوط السكر وضغط الدم، ويرى الأطباء أنها بحاجة إلى معجزة إلهية للشفاء، وتتناول حاليا جرعات من الكورتيزون علما بأنها تدرس بالصف الثاني الثانوي، وبعد أن بلغت مريم خمس سنوات أنجبت توأما هما آمنة وعيشة، وقد أراد الله أن تكون آمنة من ذوي الهمم، حيث ولدت بدون رقبة، وبقدم أرنبية، وإعاقة في اليدين، وبكلية واحدة، وبثقب في القلب منذ الولادة.
كيف تعايشت مع حالة آمنة؟
في البداية كانت الصدمة شديدة لا شك، وخاصة أنني اضطررت إلى تركها بالمستشفى فترة أسبوعين، وكم شعرت بألم كبير حين عدت إلى منزلي بدونها، وبالطبع كانت تلك الفترة من أصعب الفترات التي عانيت فيها نفسيا، ومع الوقت أدركت أهمية تقبل الأمر والتعايش معه، بل تغيرت نظرتي لهذا البلاء واعتبرته بركة وفضل من الخالق يجب أن أفتخر به، وقد قررت إلحاقها بالروضة عند عمر ثلاث سنوات وهي تابعة لمركز البحرين للحراك الدولي، وتم إدماجها في مدارس البحرين، ولله الحمد متفوقة في دراستها.
متى جاء قرار التقاعد؟
حالة آمنة الصحية تتطلب السفر لإجراء عملية تصحيح وشد للعمود الفقري كل ستة أشهر تقريبا بالمملكة العربية السعودية، ونظرا إلى ظروف مريم وآمنة قررت التقاعد عن عملي الذي استمر 14 عاما بوزارة الداخلية، وكنت ضمن أول دفعة للتقاعد الاختياري وذلك لتلبية حاجة أسرتي إليّ، و الحق يقال إنني أحيانا أشعر بالندم على ترك عملي وخاصة حين استقرت الأمور الصحية للبنتين، ولكني سعيدة بالإيفاء بمسؤولياتي العائلية وتلبية كافة احتياجات أبنائي وزوجي وأحاول جاهدة أن أحفز مريم وآمنة على ممارسة أنشطة متنوعة.
أنشطة مثل ماذا؟
لقد ألحقت آمنة هي وتوأمها عائشة بمنصة الإبداع العربي، وشاركتا في مسابقات حذاوينا، بعد أن اكتشفت موهبة تأليف وسرد القصص الشعبية لديهما، وانضمت كل منهما إلى برنامج قطار المواهب التابع للمنصة، فضلا عن ممارستهما لهواية الرسم والتمثيل أيضا، وأصبحت عضوا فعالا بها، وتحدثت عبرها وأبرزت موهبتهما وقوة الشخصية التي تتمتع بها كل منهما، وخاصة خلال فترة كورونا، وسعيت بكل جهدي إلى تعزيز ثقتهما في نفسهما، وخاصة أن عائشة شخصية خجولة للغاية بطبعها، وقد ساهمت كثيرا في أن تخرج من عزلتها وأن تنطلق وتعبر عن نفسها وتخرج من دائرة التقوقع.
ما أكبر مشكلة تواجهك مع آمنة حاليا؟
أكبر مشكلة تواجهني عند التعامل مع آمنة أنها شخصية كتومة بشدة حتى حين تتعرض لأي ظلم، لا تتحدث بسهولة ولا تعبّر عما يدور بداخلها، ومع الوقت تدربت على التعبير عن نفسها وممارسة حياتها بشكل طبيعي، وقد تعلمت الكثير هي وأختها التوأم من خلال مدرسة دينا كانو المصغرة، علما بأن هناك ثلاثة فروع منها الأولى في جناح 31 بمجمع السلمانية الطبي، والثانية في جناح أورام الأطفال 202، والثالثة بمستشفى الملك حمد الجامعي، ويتم من خلالها جميعا تقديم الدروس للأطفال المرضى ومتابعة تحصيلهم الدراسي خارج المستشفى، وأتوجه هنا بالشكر الجزيل للأستاذ سمير نور الدين والمعلمين المتطوعين على ما يقدمونه من خدمات وجهود كبيرة لهذه الفئة من الأطفال سواء فيما يتعلق بدراستهم أو على صعيد الدعم المعنوي سواء للطلبة أو لأهاليهم.
أصعب تحدي؟
أصعب فترة مرت بي كانت حين خرجت من المستشفى بعد ولادة آمنة بدونها بعد اكتشاف حالتها، إلى جانب مرحلة محاولة تشخيص حالة مريم التي امتدت لحوالي عام، ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى وبدعم زوجي والأهل تغلبت على كل ما واجهني من صعوبات أو مشاكل بمنتهى القوة والصلابة، حتى حين أصبت باكتئاب ما بعد ولادة مريم خرجت من هذه الأزمة الصحية والنفسية أقوى من ذي قبل بعد سنوات من المعاناة والألم، ونصيحتي هنا لأي أم أن تبتعد عن أي ضغوط نفسية قد تتعرض لها أثناء الحمل، وأن تحاول الخروج منها قدر الإمكان بأي وسيلة، وأن تحرص على الترفيه عن نفسها دوما، ولا تستلم لأي ظروف مهما كانت صعوبتها، وأن تستعين في ذلك بتلاوة القرآن الكريم وبالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
ما سلاحك في لحظات الضعف؟
لا شك أنني أمر كثيرا بلحظات من الإحباط والضعف بسبب الضغوط النفسية التي تصبح أحيانا فوق طاقتي، وهذا رغم أنني أرى نفسي شخصية قوية، ولكني في الوقت نفسه لا أقبل الهزيمة، ولا أسمح لشيء أن يكسرني، وساعدني على ذلك دعم الأهل وخاصة أختي التي أدين لها بالكثير فهي من شجعني على إطلاق مشروع خاص للحلوى والشوكولاته لشغل وقت فراغي بعد التقاعد، لكنه لم يستمر سوى حوالي عامين بسبب انشغالي بعلاج آمنة ورعايتها، وأشعر بصعوبة استئنافه مرة أخرى.
نصيحتك لأي أم لطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة؟
نصيحتي لكل أم رزقها الله سبحانه وتعالى بطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة أن تدعمه دوما في كل خطواته وألا تكسره بخجلها منه أو شفقتها عليه أو عدم تقبلها له وأن تؤمن بمشيئة الرحمن، وتخرج به إلى المجتمع وتدمجه فيه، وشخصيا أشعر بالفخر تجاه ابنتي آمنة، واعتبرها رحمة وفضل وأجر من رب العالمين، وأسعى بصورة مستمرة لتجديد طاقتها ودعمها نفسيا وأحفزها على الانخراط في الأنشطة التي تجذبها وتهواها.
حلم تتمنين تحقيقه؟
كل ما أتمناه هو أن أرى أبنائي أقوياء قادرين على مواجهة مصاعب الحياة بكل صورها وما أكثرها اليوم، وأن يتمتعوا بالصحة والعافية سواء نفسيا أو جسديا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك