تصدر الخطابات الروائيّة عن تلك الاشتباكات العميقة مع العوالم الممكنة من الأيديولوجيا، والتاريخ، والثقافة بكل مكوناتها، ممثَّلة في تلك التناصات الثقافيّة الكبرى أو السَّرديات الكبرى التي تمتزج مع الرؤية الروائيّة. ولا شكَّ أنَّ الخطاب الروائي يُعد من أعقد أنواع الكتابة السَّردية الحديثة على الإطلاق، وخصوصًا في صدوره عن التشابك مع الخطابات الثقافية الأخرى على اختلاف تنوعاتها. ولكن يبقى للخطاب الروائي تفرده في صدوره عن المتخيّل الروائي؛ وهذا يعني أنَّ هناك رؤية معينة للعالم يصدر عنها أيّ روائي وهو يكتب متخيّله السردي الروائي هذا. وبعض الروائيين لا يكتفون بمجرد متخيّلهم الروائي فقط، وإنَّما يعضدونه بخطاب فكري صادر عنهم متمثّل في نتاجهم الفكري التنظيري. فعلي سبيل المثال نجد أنَّ خطاب أمين معلوف الروائي يتشابك مع نتاجه الفكري، وينصهران في بوتقة واحدة صادرة عن الائتلاف والاتساق في إطار رؤية متناغمة ومتكاملة للذاتي وللشخصي وللكوني مع بعض الاختلاف بين التنظير والتطبيق. وقد قدّم أمين معلوف أربعة مؤلفات فكرية امتدَّت طوال عقدين من الزمان هي: (الحروب الصليبية كما رآها العرب) (1989)، و(بدايات) (2004)، و(الهويات القاتلة) (2004)، و(اختلال العالم) (2009). وتزامن الظهور الفكري وتبلوره عند معلوف مع الظهور الروائي متمثلاً في ثماني روايات هي:(القرن الأول بعد بياتريس) (1977)، و(سمرقند) (1991)، و(صخرة طانيوس) (1994)، و(ليون الإفريقي) (1997)، و(حدائق النور) (1998)، و(موانئ المشرق) (1998)، و(رحلة بالداسار) (2001) و(التائهون) (2012) إلى جانب مسرحيتين مُثلتا في الأوبرا الفرنسية هما: (الأم أدريانا) (2006)، و(الحب عن بعد) (2002)، ونظراً إلى أهمية الرؤية التي صدر عنها معلوف في كتبه الفكرية الأربعة المشار إليها آنفًا، وهي رؤية يتشابك فيها التاريخي بتأويلاته المتعددة المنفتحة مع السياسي والواقعي، سنجد هذا الأمر واضحًا في تأويله للتاريخ وفي استشرافه آمادًا أوسع للهويات الكونية بعيدًا عن التحديدات العرقية واللونية والجنسية ساعياً إلى الاحتفاء (بالاختلاف الثقافي) و(بالهجنة الثقافية)، داعيًا إلى إلغاء (الهويات القاتلة) مع الإشارة إلى أنَّ للسردي حضوره الكبير في الفكري عند معلوف وللفكري حضوره الكبير في المقابل في السردي. ولا يعني هذا الفصل بين الفكري والسردي على أنهما محوران منفصلان.
إنَّ مثل هذا الإدغام بين الفكري والسردي سنجده واضحًا أيضًا في أعمال عدد كبير من الروائيين العرب مثل عبدالرحمن منيف، وجبرا إبراهيم جبرا، وعبدالله العروي، وعبدالله خليفة، وغازي القصيبي، وتركي الحمد وغيرهم. وعلى الطرف الآخر سنجد أنَّ تمثيلات صورة العربي في رواية الآخر متعددة ومتشابكة وعلى قدر كبير من الصعوبة في التحديد؛ فمن السهل لدى البعض توظيف التنميط الاختزالي لثنائية شرق في مقابل غرب كما نجد في الخطابات الاستشراقية والكولونيالية على اختلافها، ولكن التمثيلات أعقد من هذا بكثير. والآخر لا يجب أن يُختزل فقط في هذه الخطابات فهناك الآخر الشرقي وهناك الآخر المنتمي إلى ما يُسمى بمجتمعات العالم الثالث، وهناك الآخر اللاتيني، وغيره. إنَّ عدداً لا بأس به من منظري ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية يأتون من عرقيات آسيوية مما يكسر طوق المركزية الغربية النقدية. ويحضر في هذا المجال أسماء كل من إدوارد سعيد وهومي بابا Homi Bhabha، وإعجاز أحمد وجياتري سبيفاك Gayatri Spivak، وبارتا تشاتيرجي Partha Cahtterjee وغيرهم.
الجدير بالذكر أن كلاً من هومي بابا، وسبيفاك، وديبيش تشاكرابارتي Dipesh Chakrabarty يصنفون ضمن مدرسة أو جماعة دراسات التابعة Subaltern Studies. إنَّ الرواية العربية الجديدة في بعض تمثيلاتها هي نتاجات إبداعية متحقِّقة لمرحلة ما بعد الكولونيالية، وهو ما سنتناوله في مقالات قادمة.
أستاذة السَّرديات والنقد
الأدبيّ الحديث المشارك كلية
الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك