العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

شتان ما بين العامية والفصحى

عطفا‭ ‬على‭ ‬مقالي‭ ‬ليوم‭ ‬أمس،‭ ‬الذي‭ ‬قلت‭ ‬فيه‭ ‬إن‭ ‬العامية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬تقوم‭ ‬مقام‭ ‬الفصحى‭ ‬في‭ ‬توصيل‭ ‬‮«‬المعلومات‮»‬‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬دقيق،‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬التبرؤ‭ ‬التام‭ ‬من‭ ‬العامية،‭ ‬فالتواصل‭ ‬اليومي‭ ‬بين‭ ‬الملايين‭ ‬يتم‭ ‬بالعامية‭ ‬لأنها‭ ‬سهلة‭ ‬وخالية‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬النحوية‭ ‬والمفردات‭ ‬الحوشيَّة،‭ ‬وستظل‭ ‬العامية‭ ‬لغة‭ ‬الأنس‭ ‬والتفاهم‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬ولكن‭ ‬يستحيل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أداة‭ ‬مجدية‭ ‬لتوصيل‭ ‬المعارف‭ ‬والعلوم،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬العامية‭ ‬قاصر‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬الدقيق‭ ‬والصحيح‭ ‬عن‭ ‬أمور‭ ‬عادية‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬لأنها‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬تبسيط‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬بسيط‭ ‬أصلا،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المعنى‭ ‬المراد‭ ‬توصيله،‭ ‬ولأنها،‭ ‬بعكس‭ ‬الفصحى،‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬فرسان‭ ‬يصوّبون‭ ‬الخطأ‭ ‬ويردون‭ ‬المفردات‭ ‬إلى‭ ‬أصولها‭ ‬وجذورها‭.‬

وفي‭ ‬تبسيط‭ ‬العامية‭ ‬لما‭ ‬هو‭ ‬بسيط‭ ‬أصلا‭ ‬انظر‭ ‬الى‭ ‬اللف‭ ‬والدوران‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بوصف‭ ‬وذكر‭ ‬الذات‭ ‬الإلهية‭: ‬يا‭ ‬أبو‭ ‬خيمة‭ ‬زرقا‭!! ‬هذه‭ ‬ربما‭ ‬تقابل‭ ‬القول‭ ‬الفصيح‭: ‬يا‭ ‬فاطر‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض،‭ ‬ولكن‭ ‬التبسيط‭ ‬العامي‭ ‬للقبة‭ ‬السماوية،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬ابتكار‭ ‬حيل‭ ‬بلاغية،‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬خيمة‭ ‬زرقاء‭ ‬ويتجاهل‭ ‬قاعدة‭ ‬الخيمة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الأرض،‭ ‬وعندنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬أستحلفك‭ ‬‮«‬بالذي‭ ‬لا‭ ‬نام‭ ‬ولا‭ ‬أكل‭ ‬الطعام‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬حقك‭ ‬أن‭ ‬تحسب‭ ‬ان‭ ‬المقصود‭ ‬بالعبارة‭ ‬شخص‭ ‬عابد،‭ ‬زاهد‭ ‬في‭ ‬الطعام‭ ‬كثير‭ ‬القيام‭ ‬بالليل؛‭ ‬وانظر‭ ‬هذا‭ ‬القسم‭ ‬عند‭ ‬المصري‭: ‬والنبي‭ ‬واللي‭ ‬نبّ‭ ‬النبي‭ ‬نبي؛‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬المصري‭ ‬أن‭ ‬يشتق‭ ‬من‭ ‬جذر‭ ‬كلمة‭ ‬النبوة‭ ‬فعلا‭ ‬هو‭ ‬‮«‬نبّ‮»‬‭ ‬ويعني‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬بعث‭ ‬النبي‭ ‬نبيا،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬قسم‭ ‬بالله‭ ‬به‭ ‬بعض‭ ‬الالتواء،‭ ‬ولا‭ ‬أعني‭ ‬بذلك‭ ‬عدم‭ ‬جواز‭ ‬القسم‭ ‬بالنبي‭ ‬وحسب،‭ ‬بل‭ ‬اللف‭ ‬والدوران،‭ ‬فبدلا‭ ‬من‭ ‬القسم‭ ‬الصريح‭ ‬بالله،‭ ‬صار‭ ‬المراد‭ ‬قسما‭ ‬بمن‭ ‬بعث‭ ‬النبي‭ ‬نبيا،‭ ‬ولأن‭ ‬العامية‭ ‬المصرية‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬شيوعا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ -‬بسبب‭ ‬ريادة‭ ‬الأفلام‭ ‬السينمائية‭ ‬والتلفزيونية‭ ‬المصرية‭- ‬يتم‭ ‬تداول‭ ‬بعض‭ ‬عباراتها‭ ‬المسكوكة‭ ‬او‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالكليشيهات‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭ ‬‮«‬منين‭ ‬يا‭ ‬حسرة‮»‬،‭ ‬و«جات‭ ‬الحزينة‭ ‬تفرح‮»‬،‭ ‬و«تحت‭ ‬السواهي‭ ‬دواهي‮»‬؛‭ ‬ولأن‭ ‬العامية‭ ‬المصرية‭ ‬كذلك،‭ ‬فسأعرض‭ ‬هنا‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬حِيَلِها‭ ‬البلاغية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬لإدراك‭ ‬مراميها‭ ‬إلا‭ ‬بمعايشة‭ ‬ومخالطة‭ ‬من‭ ‬يتداولون‭ ‬بعض‭ ‬الكليشيهات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بأمور‭ ‬حياتية‭: ‬فـ«فلان‭ ‬بعافية‮»‬‭ ‬تعني‭ ‬بالمصري‭ ‬أنه‭ ‬يفتقر‭ ‬الى‭ ‬العافية،‭ ‬بينما‭ ‬فلان‭ ‬صحته‭ ‬كويسة‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬حالته‭ ‬الصحية‭ ‬ليست‭ ‬كويسة‭ ‬لأنه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬البدانة،‭ ‬وفلان‭ ‬عنده‭ ‬عين‭ ‬حسنة،‭ ‬تعني‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬العين‭ ‬بها‭ ‬إصابة‭ ‬‮«‬دائمة‮»‬،‭ ‬أقول‭ ‬هذا‭ ‬وأنا‭ ‬مدرك‭ ‬لحقيقة‭ ‬أن‭ ‬المزاج‭ ‬المصري‭ ‬الشعبي‭ ‬ينفر‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬‮«‬الوحش‭/ ‬الشين‮»‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬يقول‭ ‬المصري‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬مصاب‭ ‬بارتفاع‭ ‬درجة‭ ‬حرارة‭ ‬جسمه‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬عنده‭ ‬سخونية‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تجاوزت‭ ‬تلك‭ ‬السخونية‭ ‬سقف‭ ‬الأربعين‭ ‬درجة،‭ ‬ولكن‭ ‬الشاهد‭ ‬عندي‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬العامية‭ ‬أو‭ ‬المزاج‭ ‬العامي‭ ‬ليس‭ ‬ميالا‭ ‬للدقة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬وتوصيل‭ ‬المعاني‭. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬أردت‭ ‬تبيان‭ ‬العجز‭ ‬التام‭ ‬للعامية‭ ‬في‭ ‬توصيل‭ ‬العلوم‭ ‬والمعارف‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬دقيق،‭ ‬فعليك‭ ‬ان‭ ‬تتخيل‭ ‬التطويل‭ ‬والمط‭ ‬الذي‭ ‬يلجأ‭ ‬اليه‭ ‬المدرس‭ ‬لتلخيص‭ ‬نظرية‭ ‬فيثاغورس‭ ‬عن‭ ‬المثلث‭ ‬قائم‭ ‬الزاوية،‭ ‬والقائلة‭ ‬بأن‭ ‬مربع‭ ‬طول‭ ‬وتر‭ ‬ذلك‭ ‬المثلث‭ ‬يساوي‭ ‬مجموع‭ ‬مربعي‭ ‬طولي‭ ‬الضلعين‭ ‬الآخرين‭.‬

وكي‭ ‬تلقم‭ ‬دعاة‭ ‬تدريس‭ ‬المواد‭ ‬الأكاديمية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬باللهجات‭ ‬العامية‭ ‬حجرا،‭ ‬اسألهم‭ ‬أن‭ ‬يلخصوا‭ ‬قانون‭ ‬الطفو‭ ‬لأرخميدس‭ ‬في‭ ‬بضع‭ ‬كلمات‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬الفصحى‭: ‬الجسم‭ ‬المغمور‭ ‬كلياً‭ ‬أو‭ ‬جزئياً‭ ‬في‭ ‬سائل‭ ‬لا‭ ‬يذوب‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬يتفاعل‭ ‬معه؛‭ ‬فإن‭ ‬السائل‭ ‬يدفع‭ ‬الجسم‭ ‬بقوة‭ (‬قوة‭ ‬الطفو‭)‬،‭ ‬وهذه‭ ‬القوة‭ ‬تساوي‭ ‬وزن‭ ‬السائل‭ ‬الذي‭ ‬يزيحه‭ ‬الجسم‭ ‬عند‭ ‬غمره‭. ‬

وأعود‭ ‬وأقول‭ ‬إن‭ ‬العامية‭ ‬ستبقى‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬بشر‭ ‬ينطقون،‭ ‬بل‭ ‬ستبقى‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬الوجدان‭ ‬العام‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الفصحى،‭ ‬بدليل‭ ‬ان‭ ‬الشعر‭ ‬العامي‭/ ‬الشعبي‭/ ‬النبطي‭ ‬وخاصة‭ ‬المُغَنّى‭ ‬منه‭ ‬أكثر‭ ‬شيوعا‭ ‬في‭ ‬زماننا‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الفصيح،‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬أداة‭ ‬وقناة‭ ‬للعلم‭ ‬والتعليم‭ ‬فهذه‭ ‬فيها‭ ‬قولان‭ ‬ليسا‭ ‬في‭ ‬صالحها‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا