العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لماذا أخاف من الظلام؟

بحكم‭ ‬انني‭ ‬عميل‭ ‬سابق‭ ‬للاستعمار‭ ‬لأنني‭ ‬عملت‭ ‬بالسفارة‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬الخرطوم،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬أرامكو‭ ‬النفطية‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬تحت‭ ‬سيطرة‭ ‬الأمريكان،‭ ‬فإنني‭ ‬متابع‭ ‬شغف‭ ‬للصحافة‭ ‬البريطانية‭ ‬والأمريكية،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬السياق‭ ‬شاركت‭ ‬عبر‭ ‬الانترنت‭ ‬في‭ ‬استفتاء‭ ‬نظمته‭ ‬صحيفة‭ ‬تايمز‭ ‬اللندنية‭ ‬حول‭ ‬أهم‭ ‬المخترعات‭ ‬والاكتشافات‭ ‬العلمية‭ ‬البريطانية،‭ ‬وكانت‭ ‬الصحيفة‭ ‬قد‭ ‬حصرت‭ ‬المنافسة‭ ‬بين‭ ‬اكتشاف‭ ‬لقاح‭ ‬الجدري‭ ‬واختراع‭ ‬أول‭ ‬كمبيوتر،‭ ‬ودراجة‭ ‬روفر‭ ‬الشعبية،‭ ‬واكتشافات‭ ‬مايكل‭ ‬فاراداي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬توليد‭ ‬الكهرباء،‭ ‬ثم‭ ‬المصباح‭ ‬الكهربائي‭ ‬الذي‭ ‬طوره‭ ‬العالم‭ ‬الكيميائي‭ ‬البريطاني‭ ‬جوزيف‭ ‬سوان‭ (‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬نجح‭ ‬الأمريكان‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬العالم‭ ‬بان‭ ‬توماس‭ ‬أديسون‭ ‬هو‭ ‬مخترع‭ ‬المصباح‭ ‬الكهربائي‭). ‬وبداهة‭ ‬فقد‭ ‬منحت‭ ‬صوتي‭ ‬للمصباح‭ ‬الكهربائي،‭ ‬لأنني‭ ‬أكره‭ ‬الظلام‭ ‬بمعناه‭ ‬الحرفي‭ ‬والمجازي،‭ ‬وأحب‭ ‬التنوير‭ ‬بمعناه‭ ‬الحرفي‭ ‬والمجازي‭. ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬بدين‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬كان‭ ‬الظلام‭ ‬سميكا‭ ‬وكثيفا‭ ‬بحيث‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬إمكانك‭ ‬ان‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬ارض‭ ‬خلاء‭ ‬وظهرك‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الظلام‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬مصباح‭ ‬الجاز‭ ‬الأبيض‭ ‬او‭ ‬الكيروسين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يضاء‭ ‬باستمرار‭ ‬ترشيدا‭ ‬للإنفاق،‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬ضوءه‭ ‬يجذب‭ ‬العقارب‭. ‬وكانت‭ ‬أمهاتنا‭ ‬وجداتنا‭ ‬يفاقمن‭ ‬خوفنا‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬بحكاياتهن‭ ‬المرعبة‭ ‬عن‭ ‬الغول‭ ‬والجن‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬ظلام‭ ‬الأمية‭ ‬والجهل‭ ‬والخرافات‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتحالف‭ ‬مع‭ ‬ظلام‭ ‬الليل‭ ‬ليجعل‭ ‬نهارنا‭ ‬ليلا‭ ‬شديد‭ ‬الحلكة‭. ‬وكنا‭ ‬ونحن‭ ‬صغار‭ ‬نلعب‭ ‬في‭ ‬تلال‭ ‬رملية‭ ‬وكلما‭ ‬لمحنا‭ ‬وميض‭ ‬ضوء‭ ‬بعيد‭ ‬هربنا‭ ‬الى‭ ‬بيوتنا‭ ‬لأننا‭ ‬كنا‭ ‬نحسب‭ ‬ان‭ ‬الجن‭ ‬يحاولون‭ ‬استدراجنا‭ ‬الى‭ ‬مصدر‭ ‬الضوء،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬الاستنتاج‭ ‬منطقيا‭ ‬لأن‭ ‬مصابيح‭ ‬الجاز‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬امام‭ ‬أرق‭ ‬نسمة‭ ‬هواء‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬واردا‭ ‬ان‭ ‬واحدا‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الإنس‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬مصباحا‭ ‬يرسل‭ ‬وميضا‭ ‬يرى‭ ‬من‭ ‬بُعد،‭ ‬وانتقلت‭ ‬الى‭ ‬المدينة‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الشوارع‭ ‬مضاءة‭ ‬وتستطيع‭ ‬ان‭ ‬تقهر‭ ‬الظلام‭ ‬بضغطة‭ ‬خفيفة‭ ‬على‭ ‬زر‭ ‬صغير‭. ‬والى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬أنام‭ ‬إلا‭ ‬وبعض‭ ‬الضوء‭ ‬يتسلل‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬بُعْد‭ ‬الى‭ ‬الغرفة‭ ‬التي‭ ‬أنام‭ ‬فيها‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬بداخلي‭ ‬خوف‭ ‬طفولي‭ ‬من‭ ‬الظلام‭. ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬أقود‭ ‬سيارتي‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬ليست‭ ‬به‭ ‬إضاءة،‭ ‬أحس‭ ‬بضيق‭ ‬شديد‭ ‬رغم‭ ‬ان‭ ‬كشافات‭ ‬السيارة‭ ‬تعينني‭ ‬على‭ ‬استكشاف‭ ‬الطريق‭. ‬وحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هي‭ ‬ان‭ ‬الظلام‭ ‬ارتبط‭ ‬في‭ ‬مخيلتي‭ ‬بالخوف‭ ‬من‭ ‬المجهول،‭ ‬ولك‭ ‬ان‭ ‬تقدر‭ ‬حجم‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬يعشش‭ ‬داخل‭ ‬آدمي‭ ‬عاش‭ ‬معظم‭ ‬سنوات‭ ‬حياته‭ ‬مظلوما،‭ ‬والظلم‭ ‬صنو‭ ‬الظلام،‭ ‬ومعظم‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬أصابني‭ ‬كان‭ ‬مصدره‭ ‬الجهات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مناطا‭ ‬بها‭ ‬توفير‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان‭ ‬لي‭ ‬ولغيري،‭ ‬فليس‭ ‬أقسى‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬ذوي‭ ‬القربى،‭ ‬أي‭ ‬الحكومة‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تعاملك‭ ‬كمواطن‭ ‬وتحرص‭ ‬على‭ ‬أمنك‭ ‬وراحتك،‭ ‬ففي‭ ‬وطني‭ ‬السودان‭ ‬فقدت‭ ‬وظيفتي‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬لأن‭ ‬الحكومة‭ ‬لم‭  ‬تكن‭ ‬تحبني،‭ ‬وتم‭ ‬إيقافي‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬السودانية‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬لنفس‭ ‬السبب،‭ ‬وعشت‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬لم‭ ‬أتعرض‭ ‬خلالها‭ ‬للتفنيش‭ ‬أو‭ ‬‮«‬التفتيش‭ ‬الأمني‮»‬‭.‬

يعني‭ ‬صار‭ ‬الظلام‭ ‬يعني‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬الأجهزة‭ ‬السرية‭ ‬مثل‭ ‬المباحث‭ ‬والمخابرات‭. ‬هي‭ ‬بالطبع‭ ‬تؤدي‭ ‬المهام‭ ‬الموكلة‭ ‬إليها‭ ‬بتصيد‭ ‬ومراقبة‭ ‬وكمش‭ ‬ومطاردة‭ ‬ومضايقة‭ ‬المشاغبين،‭ ‬واعترف‭ ‬بأنني‭ ‬كنت‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬مشاغبا‭ ‬من‭ ‬وجهات‭ ‬نظر‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية،‭ ‬فقد‭ ‬ابتلى‭ ‬الله‭ ‬السودان‭ ‬بحكومات‭ ‬منتخبة‭ ‬وديكتاتوريات‭ ‬عسكرية‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬‮«‬أنْيَل‮»‬‭ ‬من‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولم‭ ‬أحس‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬بأن‭ ‬أياً‭ ‬منها‭ ‬تمثلني‭ ‬أو‭ ‬معنية‭ ‬بأمري‭ ‬وأمور‭ ‬غيري‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭. ‬وهكذا‭ ‬نشأت‭ ‬معارضا‭ ‬‮«‬محترفا‮»‬‭. ‬ورغم‭ ‬انني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قط‭ ‬معارضا‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬الثقيل‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬أعرف‭ ‬ان‭ ‬لي‭ ‬ملفا‭ ‬محترما‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬جهاز‭ ‬أمني،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أخاف‭ ‬ان‭ ‬يأتوني‭ ‬بعد‭ ‬هبوط‭ ‬الظلام‭ ‬ويضعوني‭ ‬في‭ ‬زنزانة‭ ‬ليست‭ ‬بها‭ ‬إضاءة‭. ‬ولكن‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬مدركا‭ ‬وأنا‭ ‬أسير‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬مدن‭ ‬حسنة‭ ‬الإضاءة‭ ‬أنها‭ ‬أي‭ ‬تلك‭ ‬المدن‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬الظلام‭.. ‬المعنوي،‭ ‬وهو‭ ‬أشد‭ ‬قسوة‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬انعدام‭ ‬الضوء‭ ‬الطبيعي‭ ‬او‭ ‬الاصطناعي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا