زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
مرافعة دفاع عن الجغرافيا
في عصر ما قبل الإنترنت كنت حريصا على اقتناء قواميس عربي-إنجليزي -عربي «مطبوعة على ورق» في جميع المجالات، ورغم أنني لم أعد أستخدمها إلا أن قلبي لا يطاوعني في أمر التخلص منها، وما زال عندي منها في البيت نحو الثلاثين، ولم يكن ذلك بدواعي أكل العيش، بحكم أنني اعتشت من الترجمة سنوات طويلة، ولكن لأنني أحب سبر أسرار وأغوار الكلمات، بل بي شغف غريب بمعرفة «أصول الكلمات» وجذورها، وكلما طالعت القواميس أدركت ضآلة حصيلتي اللغوية، أو أنني كنت أخطئ في استخدام أو نطق كلمات معينة (اعترفت مرارا بأنني لا أعرف موقع البوع والكراديس في الجسم) وكان بي شغف بالأطالس «الورقية» نشأ من حبي لمادة الجغرافيا التي أعتبرها أم الكثير من العلوم النظرية (مثل الجيولوجيا والمناخ والاقتصاد والسياسة)، وكنت كلما أحسست بالملل، فتحت أطلسا وتمعنت في محتويات القارات والبلدان، ثم صار الأمر أكثر إمتاعا بعد صدور أطالس موسوعية إلكترونية ذات المعلومات الدقيقة.
وعودا على أمر شغفي بسبر غور الكلمات أقول إن هناك كتابا كثيرين أقرأ لهم لأن «لغتهم» جميلة. حتى لو كانت الأفكار في مقال ما مستهلكة ومطروقة ولا تعجبني، فإنني قد أقرأه إذا كان لكاتبه أسلوب جميل أخاذ. وربما يفسر هذا لماذا قد لا يمر يوم دون أن أقرأ شيئا من الشعر، حتى ولو كان من شاكلة: سحرك يأتيني موجة، موجة / كغارات داعش على الفلوجة. أعني به الكلام المرصوص شبه المسجوع الذي تنشره الصحف على أيامنا هذه على أنه شعر، بينما هو من فصيلة ما يسمى «راب» في عالم الغناء. وأتى علي حين من الدهر كنت فيه أقص الشعر المنشور في الصحف والمجلات، وأحمل القصاصات معي أينما ذهبت إلى أن تعلق الأبيات الشعرية التي تستهويني بذاكرتي، ولكن لم يعد في الذاكرة متسع حتى لأسماء الناس بعد أن امتلأت بأرقام الهواتف وكلمات السر/ المرور الخاصة بالبريد الإلكتروني وبطاقات سحب النقود وأرقام مساكن الأهل والمعارف.
وأكثر ما يرهقني في العيش في منطقة الخليج هو تذكر الأسماء: أجلس مع مجموعة وآنس لها ويشدك كلام هذا وآراء ذاك، وأحاول مبادلتهم الحديث فأكتشف أنني لا أتذكر أسماءهم، رغم أن هناك من قدمهم إليّ.. كيف تحفظ أسماء عشرة أشخاص أربعة منهم يحملون كنية أبو محمد وثلاثة كنية أبو عبدالله. والثلاثة الآخرون غير متزوجين وأسماؤهم الأولى عبد الله. صرت كلما التقيت خليجيا أعرفه أناديه: هلا بو محمد فإذا تجاهلني صحت: هلا بو عبد الله ف«تطلع صح». في دولة قطر حيث أقيم منذ سنوات يحمل 75% من الذكور واحدا من الأسماء التالية: عبد الله، محمد، حمد، جاسم، ناصر، سلطان، خليفة، سالم.. ونحو 15% أسماؤهم بالتحديد عبد العزيز وعبد الرحمن.. وتقول المعلومات المتوفرة لدي من واقع دليل الهاتف إن هناك خمسة جعافر يقيمون في قطر ثلاثة منهم سودانيون والاثنان الآخران باكستانيان الاسم الأصلي لكل منهما «ظفر» ولكن شركة الهاتف «جعفرتهما».
كان هدفي من مقال اليوم حث الطلاب على عدم إهمال الجغرافيا، لأن من لا يفهم الجغرافيا لن يفهم ما يحدث في العالم ولكن الاستطراد الجاحظي ذهب بي بعيدا. عموما يحزنني أن أشهد نفور الطلاب من الجغرافيا رغم أن دراستها فيها نفس متعة «اكتشاف» المجهول.. والسبب في نفورهم هو أننا وفي السنوات الأخيرة -وربما بسبب مركب نقص- صرنا نقسم منهج الجغرافيا إلى عالم عربي وعالم أجنبي. ونلقن عيالنا عاما بعد آخر كلاما ممجوجا عن أن السودان «يمكن» أن يكون سلة غذاء العالم وأن مناخ البحر الأبيض حار جاف صيفا دافئ ممطر شتاء.. ويصدق الطالب ذلك ويذهب مع أهله إلى إسبانيا في الشتاء فيخرج إلى الشارع بملابس الصيف فيصاب بأنفلونزا الدجاج فيسيء الظن بالجغرافيا ويعتبرها تخاريف.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك