زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ذكريات الصعود الجسماني والمعنوي
على خوفي من الأماكن المرتفعة، فقد استجمعت شجاعتي ذات عام، ووقفت على قمة إيفرست الهندسية، (وليس الهندية بل الكلمة من هندسة)، اي أعلى مبنى في العالم، وبالتحديد برج خليفة في دبي، وجاءني كذا فلبيني عارضا علي التقاط صورة أحتفظ بها كذكرى، فصرفتهم بكل حزم لأن البرج ليس من انجازاتي، ولا أملك ولا لوح بورسلين أو رخام واحد على أرضيته فيه، فقيمة التجربة أمر “جواني”، وبيني وبينكم فقد تفاديت الاقتراب من اللوح الزجاجي الذي تستطيع عبره رؤية بانوراما دبي بأكملها، فوقفت على بعد مسافة آمنة من لوح الزجاج، ورأيت عمارات شاهقة تبدو وكأنها أكشاك تبيع الشاي الكرك، ومصابيح صغيرة ترسل وميضا خافتا، وفهمت أنها السيارات، فقد كنت أخشى أن أتكئ على الزجاج فينهار لسبب أو لآخر وأروح «شمار في مرقة» كما نقول في السودان عن الضياع الكامل، لأن الشمار (الكَمُّون) بهار يختفي بمجرد إضافته إلى الطبخة.
كنت قبلها بنحو ببضع سنة قد صعدت إلى أعلى بناية في العالم وقتها (برج بتروناس في العاصمة الماليزية كوالالمبور)، وفي الحالتين همهمت «سبحان الذي سخر لنا هذا....»، لأنني تذكرت فرحتي بالالتحاق بمدرسة ثانوية تتألف من طابقين، وكنت أستمتع بالصعود والنزول بالسلم/ الدرج لأول مرة في حياتي، وتذكرت كيف كنا نتسلل الى الطابق العلوي لتدخين تبغ ركيك، وكيف قفشنا ناظر المدرسة وأرغمنا على كنس المكان بأكمله ثم مسحه بأقمشة قديمة مبتلة! ثم تفوقت على أبناء جيلي وزملائي في رحلة الدراسة بأن نلت وظيفة في أقدم بناية متعددة الطبقات في الخرطوم (اسمها عمارة أبو العلا)، وكان مكتبي في الطابق الرابع ويطل على القصر الجمهوري، والأهم من ذلك كله أنني استخدمت المصعد الكهربائي (الأسانسير) للوصول الى مكتبي. صحيح أنني لم أجد قط في نفسي الشجاعة لأدخل ذلك الأسانسير صعودا أو هبوطا بمفردي، فإذا لم أجد كفيلا يصطحبني معه، كنت استخدم الدرج الذي نسميه في السودان «السِلِّم».
وكلما مررت بتجربة التعامل مع انجازات وابتكارات العلم الحديث، تلكزني ذاكرتي بعنف وتصيح في أذني: لا تنس حالك «وتحسب روحك راقيا ومتحضرا وابن مدن. خلاص نسيت بيتكم الذي كانت أمك تربط المعزة الحامل في شهرها الأخير على رجل سريرها الخشبي لتهب من نومها وتوقظكم جميعا إذا ما توجعت المعزة وحانت ساعة الولادة؟ هل نسيت أنك مارست توليد كذا معزة من دون مساعدة من أحد عندما كنت ترعاها؟» لا لم أنس شيئا من ذلك، بل لم أنس كيف كنت أفرح بولادة كل معزة، لأننا كنا نقوم بحلب لبن الأم فور هبوط البيبي، فنعصر ضرعها لينتج سائلا سميكا يشبه الصديد، وعندما تغليه على النار يصبح شيئا اسمه «اللِّبا»، (الكلمة فصيحة وتكتب اللباء واللبأ) وهو عبارة عن كتل تكتسب بياضا ناصعا ولها طعم لذيذ للغاية، وبعد أن تعلمنا في المدارس وصرنا نفهم طراطيش معلومات عن الولادة والرضاع، عرفت أننا كنا أنانيين، ونحرم السخلة (بيبي المعزة) من أهم عنصر غذائي لنموها معافاة، وفهمنا لماذا من الضروري أن يرضع الطفل الوليد من ثدي أمه منذ ساعاته الأولى في الدنيا لأن لبن الأم الذي تشكل في الأشهر الأخيرة من الحمل هو الذي يعزز نظام المناعة للرضيع، نعم، وأتذكر إذا لحافي جلد شاة وإذ نعلاي من قماش سميك من إنتاج شركة باتا، بل وأذكر أن أمي كانت تغسل جزمتي كل بضعة أيام حتى تزيل عنها البقع والروائح التي كانت أفظع من رائحة الفسيخ منتهي الصلاحية، ولكن ولأنني ابن آدم فإنني «مفتري»، وأتمنى أن يمد الله في أيامي لأتعامل مع مخترعات العصر كلها، وأهمها ركوب طائرة إيرباص الجديدة، أم طابقين على أن أجلس في الطابق العلوي وأحس بأنني «فوق».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك