زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الحج على مهل وعلى عجل
في عصر الهرولة واللهاث الذي نعيش فيه، صرت كلما قرأت في الصحف مؤخرا أن الحجيج عادوا الى هذا البلد أو ذاك بعد أداء الفريضة الخامسة، يقول لي إبليس: إنهم مستهبلون، فكيف يقضي شخص ما ثلاثة أو أربعة أيام في الأراضي المقدسة، ويؤدي كل شعائر الحج ثم يعود؟ وأعرف أن إبليس خبيث، ولكن تساؤله يهيج الشجون والذكريات، ويجعلني أستعيد أمر الحجاج المنطلقين الى مكة من اقصى شمال السودان، قبل عقود قليلة، وكيف إن الشبعان أبو جيب مليان منهم كان يعود في غضون شهر بينما كان معظمهم يعود بعد 40 إلى 60 يوما من تاريخ بدء الرحلة، وأذكر تماما كيف كانت هناك زفة من النساء والرجال يرددون أناشيد وأدعية باللغة النوبية ترافق كل حاج حتى المرسى، الذي سيغادر منه جزيرتنا النهرية ليركب شاحنة توصله الى الخرطوم، وكانت هناك الكثير من الدموع لأن مشاق الحج كانت تعني أن عددا كبيرا من الحجاج كانوا يموتون بسبب الإجهاد خلال الرحلات الطويلة الى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومن الخرطوم كان الحاج ينتظر القطار الذي كان يتجه الى بورتسودان على البحر الأحمر مرة واحدة في الأسبوع، أو يأخذ القطار إلى مدينة عطبرة عاصمة السكك الحديدية في السودان حيث يجد قطارا يوميا ينقله الى بورتسودان، وكانت هذه المدينة تشهد معسكرات ضخمة يقيم فيها الحجاج في انتظار دورهم لركوب السفن للانتقال الى جدة، ومن هناك بالحافلات الى مكة عبر طريق غير ممهد، وبعد الفراغ من شعائر الحج يتم التوجه الى المدينة عبر طريق أكثر وعورة.
وبسبب الحج استقر في السودان الملايين من اهل غرب إفريقيا، فبعضهم كان يترك بلاده قبل سنة من موسم الحج ويدخل السودان سيرا على الأقدام، ثم يتوقفون هنا وهناك للحصول على عمل يدرّ عليهم عائدا يكفي لشراء تذكرة ركوب سفينة بعد الوصول الى البحر الأحمر سيرا على الأقدام، اي بعد مسيرة استغرقت قرابة 11 شهرا، ومن عجز منهم عن توفير قيمة التذكرة استقر في السودان نهائيا ثم استقدم عائلته لاحقا، وكثيرون ممن نجحوا في أداء فريضة الحج طاب لهم المقام في السودان كعمال زراعيين، وبمرور الزمن صار بعضهم من ملاك الاراضي، والى يومنا هذا يستطيع كل راغب من غرب إفريقيا دخول السودان بدون اي أوراق رسمية، بل لم يكن الذهاب من السودان الى السعودية لأداء فريضة الحج حتى قبل نحو 50 سنة يتطلب الحصول على فيزا، فقد كان السوداني العازم على الحج لا يفكر قط في شيء سوى العودة الى أهله سالما، ليجد البوابة الخارجية لبيته مطلية باللون الابيض وعليها عبارة «حجا مبرورا وسعيا مشكورا»، بل كانت قلة قليلة جدا من الحجاج من مختلف البلدان «تزوغ» بعد ان تستحلي العيش في السعودية فلا تعود الى وطنها الاصلي. واليوم يصل الحاج من إندونيسيا الى مكة خلال ساعات، ويكمل الشعائر على خير وجه، ويعود الى بلاده فيلتقي به جار ويسأله: وينك ما شفناك من كذا يوم؟ فيكون الرد: الحمد لله رحت الحج ورجعت.. ما شاء الله، والله حسبتك عيان أو رحت المدينة تتسوّق.
رحلتي من شمال السودان الى وسطه للالتحاق بالمدرسة الثانوية كانت بالشاحنات التي تم تحويلها الى حافلات بتزويدها بمقاعد مصابة بشد عضلي واستغرقت نحو 36 ساعة تخللتها استراحة نوم في صحراء رملية، واليوم لا تستغرق نفس الرحلة أكثر من ست ساعات، بل تستطيع قطع ثلاثة أرباع المسافة بالطائرة وتكمل بقية المشوار بسيارة فتقطع المسافة في نحو ساعتين، وكل هذا لأن الخواجات اخترعوا وسائل النقل الحديثة وعلمونا رصف الطرق بالأسفلت، ثم نستمتع بشتمهم ولعنهم وتحميلهم وزر قعودنا وتوقفنا عن المساهمة في التراث الإنساني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك