زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن الذوق في الطرقات
نسميه بالذوق، هو التهذيب والاستعداد لمجاملة الآخرين ومخاطبة الغير بما يحبون، والذوق ليس موهبة بل عادة مكتسبة «من البيت»، أي أن أهلك هم من يبرمجونك كي تكون مهذبا خلوقا متسامحا وصاحب مروءة، وبالمقابل فهم من قد ينشئونك فظا جِلْفا غليظ القلب، يتعامل مع الآخرين محصنين بـ«قل أعوذ برب الفلق».
مناسبة هذا الكلام هي أنني ألمس في كثيرين منا جلافة و«عدم ذوق» عند التعامل مع الآخرين في الأماكن العامة خصوصا، وفي هذا الصدد أقول إنني زرت لندن خلال الخمس وعشرين سنة الماضية نحو عشر مرات، ووجدت في كل مرة معدلات الجريمة في زيادة مطردة، ولكن كل ذلك لم يمنعني من الانبهار بأشياء كثيرة، وكان أكثر ما يريح أعصابي طوال إقامتي في لندن «الدقة في المواعيد»، القطارات والناس والحافلات وبرامج التلفزيون كلها تتقيد بمواعيد معلنة أو متفق عليها، وبالمقابل فما من شيء يبط كبدي ويفقع مرارتي مثل استخفافنا نحن أهل «من المحيط إلى الخليج» بالمواعيد، بل حتى تلفزيوناتنا لا تحترم مشاهديها وقد تبث برنامجا كان يبغي أن يبث في الخامسة مساء في منتصف الليل، وأذكر أن صديقا لي بريطانيا عمل استشاريا في محطة تلفزيونية عربية يفترض انها محترمة، براتب مهول، ولكنه فاجأني بعد شهور قليلة من التحاقه بها بأنه قدم استقالته وسيبحث عن عمل في دولة عربية في اي مجال ما عدا التلفزيون فسألته: واي؟ فقال: هل تتخيل أن قناة تلفزيونية تعجز عن بث نشرة أخبار في موعدها المحدد؟ قلت له: أتخيل ونُص، لأنه ليست لنشراتنا الإخبارية قيمة، ولا أحد يتابعها ولو تابعها أحد فهو لا يصدق ما يجيء فيها.
لن أتحدث عن الاختراعات والاكتشافات التي أسهم بها البريطانيون في تغيير مجرى التاريخ وحياة البشر، بل عن لمسات بسيطة نفتقدها في بلداننا، فمدينة لندن مثلا تتميز بضيق الشوارع الداخلية، فتجد شارعا عرضه ثلاثة أمتار مخصص لسير السيارات في اتجاهين متعاكسين، ثم تجد على جانبيه سيارات واقفة، وتقود سيارتك في احد تلك الشوارع وفجأة تظهر من الاتجاه المقابل سيارة أخرى، ومن دون توسل منك يحشر سيارته في زاوية ضيقة في الشارع لتمر أنت ويتحرك هو بعدها، وبعبارة أخرى فإن حركة المرور في بريطانيا تكون سلسة ومنسابة، ليس فقط لأنها محكومة بقوانين ولكن لأن سائقي السيارات يتعاملون مع بعضهم البعض بـ«الذوق»، خاصة إذا كان هناك من هو مزنوق، مثل من يريد أن يدخل بسيارته من شارع فرعي الى شارع رئيسي، فإذا كنت في موقف كهذا فستجد أن سائق أول سيارة غير مندفعة في الشارع الرئيسي يتوقف ويومئ اليك بالدخول، أما عندنا فالمسألة «مرجلة وهرجلة وبرجلة»، من يأتي من شارع جانبي يقفز بسيارته الى الشارع الرئيسي ولسان حاله يقول: لو أنت راجل/ رجّال اصدمني، ولو توقفت بسيارتك عند مدخل شارع رئيسي، فلا أمل لك في دخوله سالما، إلا إذا وقع حادث يعطل المرور في الحارة اليمنى من الشارع، وتقود سيارتك بالسرعة القصوى المسموح بها في أقصى يسار الشارع كما تقضي قوانين المرور، ولكن تلتصق بك سيارة من الخلف، ويرسل سائقها اشارات ضوئية ويضغط على البوق وكأنك «ماشي في شارع أبوه»، ولكي تسمح له بتخطيك وتجاوزك، عليك أن تتجاوز السرعة المسموح بها، أما إذا تمسكت بالقانون وتجاهلت غمزاته وصرخات بوقه، فإنه يتجاوزك باليمين وقد يوجه لك (أنت وحظك): شتائم أو بصقة أو إيماءة بذيئة وقد يرعبك بالسير أمامك ثم الوقوف المفاجئ، فإما صدمته من الخلف، أو نجوت من الحادث بأعجوبة عند انحراف سيارتك لتفاديه، أو تركت له الشارع وغيرت وجهتك، وأقول بضمير مستريح إنني لا أمارس أي نوع من التعالي على آدمي مهما كانت جنسيته أو ديانته أو وضعه الاجتماعي أو الوظيفي، ولكن وبعد العيش في عدد من الدول العربية لمدد متفاوتة سنين عددا، أستطيع أن أقول إنه لا «يتفوق» على السائق العربي في قلة الذوق المروري، إلا السائق الهندي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك