زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
غزلية أخرى في بريطانيا
قلت كلاما طيبا يوم الأول من أمس عن أهل بريطانيا، فيما يخص سلوكهم في الطرقات والأماكن العامة، وبالأمس كان لابد من التباهي بأن أكلاتنا غزت المطاعم والبطون الأوروبية.
وأحسب أنني أعرف البريطانيين وثقافتهم وطريقة تفكيرهم وعاداتهم جيدا، بحكم انني عشت بين ظهرانيهم لبعض الوقت، وبحكم انني زرت بلدهم عديد المرات، ولأنني من بلد كان مستعمرة بريطانية لأكثر من نصف قرن، ودرست منذ المرحلة الابتدائية وانتهاء بالجامعية مناهج وضعها بريطانيون، بل وفي المرحلتين الثانوية والجامعة كان الكثير من اساتذتي في مختلف المواد من البريطانيين، وتستطيع ان تقول عن بريطانيا إنها قوة استعمارية وامبريالية، شفطت ثروات الشعوب، وكانت الرائدة في مجال تجارة الرقيق والقرصنة البحرية، ولكنك لا تستطيع ان تنكر ريادتها في مجال الديمقراطية وسيادة القانون على الأقل في ما يخص مواطنيها، وهكذا كان ونستون تشيرتشل رئيس الوزراء الذي قاد بريطانيا بكفاءة في تصديها لألمانيا النازية، بل وكان البطل الحقيقي في انتصار الحلفاء على ألمانيا، ولكنه خسر أول انتخابات بعد الحرب، وجلس في بيته يدخن السيجار ويشفط الويسكي ويقرأ ويكتب حتى وفاته عام 1965 عن 90 سنة، وبالمقابل كان عندنا في السودان رئيس وزراء اسمه عبد الله خليل، وما أن أدرك أن هناك جلسة برلمانية ستطيح بحكومته، حتى اقنع قادة الجيش بالانقلاب على حكومته، ولكن بـ«نظام»: استلموا السلطة وشكلوا حكومة مدنية مؤقتة وبعدين أنا استرد الحكم، وقال له قادة الجيش: ما يصير، نحن عساكر وأقسمنا على حماية الدستور والنظام القائم، فقال لهم: أنا كبير النظام القائم والمسؤول عن حماية الدستور وأطلب منكم القيام بانقلاب، فجبروا بخاطره وانقلبوا عليه ولكن انقلابا كاملا. بمعنى أنهم استولوا على الحكم دون الحاجة الى تحركات عسكرية واعتقال سياسيين واحتلال مواقع استراتيجية، ثم قالوا: طالما رئيس الحكومة المنتخب مش قادر يحكم، ومش راضي بقوانين اللعبة الديمقراطية، معنى كده ان الديمقراطية مش نافعة، فخلينا نحكم. وهكذا شكلوا حكومة عسكرية، اي ان كبار قادة الجيش تقاسموا الحقائب الوزارية، وخرج عبد الله خليل الذي دعاهم لاستلام السلطة ولم يعد حتى الآن، رحمه الله، وهب الشعب في أكتوبر 1964، فخرج العساكر من الحكم، ولكن نسلهم استمرأ الحكم فاستولوا على السلطة في مايو 1969، ولما أسقطهم الشعب في إبريل 1985، كررت سلالة جديدة من العسكريين التجربة وظلوا يحكمون السودان منذ يونيو 1989، وضيعوا ثلث مساحة البلاد بقبول انفصال الجنوب، ويقولون بين الحين والآخر إن «حلايب» سودانية، بينما هو يعرفون أنها صارت في عهدهم خاضعة للحكم المصري تماما، وأطاحت بهم ثورة شعبية في 2019، وها هم اليوم يشعلونها حربا شاملة ليعودوا إلى الحكم بفوهات البنادق.
والشاهد هو أن الغرب عموما اكتشف ان الديمقراطية قادرة على تصحيح اخطائها، وكلما تكرست الديمقراطية كلما تعزز احساس الانسان بالمواطنة، والتي من أهم قيمِها الاحساس بالمساواة في الحقوق والواجبات، وهكذا فإن ضرب رئيس وزراء السويد ببيضة مخالفة لا تتعدى عقوبتها الحبس يومين أو غرامة رمزية، بينما نال عقوبة الاعدام أشخاص أنزلوا صور الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد من جدران غرف نومهم، ولهذا فمن المفهوم أن معمر القذافي لجأ الى الدبابات لتفريق المظاهرات في عام 2011، لأن المسكين لم يكن يعرف وسيلة أخرى لفضِّها، بحكم أنه لم يكن يعرف ما هي «المظاهرة» ما لم تكن للاحتفال باستقباله او بختان عياله أو عيد ميلاد كلبه.
وأعرف أن الكثير من الظلم لحق بنا من تحت رأس استعمار الدول الغربية لبلداننا، ولكن وكما انتبه للأمر المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه «شروط النهضة» فلو لم تكن بنا قابلية للاستعمار، لما استعمرنا الأوربيون وحولوا بعضنا الى أدوات لهم، وخضعنا لهم كشعوب، ثم تحررنا من الاستعمار الأجنبي واكتشفنا ان الاستعمار «الوطني» أكثر شراسة وفظاظة.. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام الأجنبي (بعد إذن الشاعر طرفة بن العبد).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك