زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
قعود قاد إلى جحود
درجنا كشعوب تعيش ما بين المحيط الأطلسي والخليج العربي على اليد التي »تطعمنا« بالمنتجات والأفكار، فنحن وعلى الدوام نصب اللعنات على الغرب وأهله، بينما نتهافت على اقتناء كل ما يطرحه ذلك الغرب في السوق، ولا يحزنني فقط أننا أمة تستهلك منتجات ومخترعات الغرب، بل إننا لا نعترف بقعودنا وقصورنا، ونعزو كل بلاء يلحق بنا للغرب ومؤامراته علينا. بذمتكم لماذا يتآمر علينا؟ ما حيلتنا وماذا عندنا كي يطمع فيه الغرب خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وانتفاء الهوس الأمريكي بإنشاء قواعد عسكرية في كل دولة ترحب بها؟ وصحيح أن الغرب سرق الكثير من خيراتنا، وسامنا سوء العذاب كثيرا، ولكن العيب فينا، فحتى في دنيا البشر لا يتعرض للمهانة والإذلال، إلا من لا يدافع عن كرامته وقيمه.
عنّت لي تلك الأفكار بعد أن شاهدت فيلما وثائقيا عن تطور وسائل الاتصالات وصولا إلى عصر الهاتف الجوال الغبي، ثم الذكي الذي يؤنسك ويلاعبك ويعفيك من تكبد نفقات مالية كبيرة نظير التواصل مع الآخرين، وهناك من سيقول إن هذا الاختراع صار «عادي» ولا يحتاج إلى مواويل تخوض في اختراعه واستخداماته وفوائده، ولكن كاتب هذه السطور نشأ في جزيرة نيلية، في شمال السودان، كان فيها نعي الموتى يتم عن طريق الصراخ، بأن يتم تكليف شخصين أو أكثر بركوب حمير ذات بأس لينشروا خبر الوفاة، بعد تحديد نطاق اختصاص كل واحد منهم جغرافيا، ومثل ذلك الشخص كان يسمى «كُبُدَر»، وكان مطالبا بالصياح بأن فلان الفلاني انتقل إلى رحمة مولاه، وبعدها ينتقل الخبر شفاهة حتى يصل كل أهل البلد فيتجهون إلى منزل المتوفى أو المقابر، وأهل نفس الجزيرة انتقلوا من مرحلة الكبدر أبو حمار إلى النعي بمسجات الموبايل، فيتم تكليف بضعة أشخاص بكتابة رسالة النعي وإرسالها إلى عدد معين من الناس مصحوبة برجاء «انشر/ عمم»
عندما تحيق بنا مصيبة في العالم العربي نلجأ إلى لطم الخدود، أو البحث عن «شماعة»، بينما كارثة غرق السفينة تايتانيك والتي راح ضحيتها المئات، هي التي جعلت الخواجات يدركون ضرورة تحديث وسائل الاتصال اللاسلكي، وكانت تايتانيك مزودة بأول جهاز لاسلكي من نوعه، ويعمل على تردد واحد فقط، فإذا كان الجهاز يبث رسالة، فإنه كان يعجز عن استقبال أي رسالة، ولم يكن ذلك الجهاز بعيد المدى، ومن ثم كانت السفن تتولى توصيل الرسائل لبعضها البعض حتى تصل إلى السفينة المستهدفة، وتصادف أن سفينة أخرى كانت تمر بالقرب من تايتانيك، ووردت منها رسائل كثيرة إلى فني اللاسلكي في تايتانيك، فطلب من السفينة أن ت«شط أب» اي تنكتم وتكف عن تزويده بالرسائل لكثرة أعبائه، فلبت السفينة الطلب وأغلق فني اللاسلكي فيها جهازه وانصرف، ولو بقيت تايتانيك على تواصل مع تلك السفينة لتلقت تحذيرا بأنها تتجه نحو جبل الجليد الذي جاب خبرها. وبعد تلك الكارثة نشط الغربيون «الملاعين» في البحث عن وسائل اتصال فعالة ومباشرة بين طرفين، وكثيرون لا يعرفون أن ممثلة هوليوودية فاتنة (هيدي لامار) وهي من أصل نمساوي هي التي مهدت الطريق لاختراع الهاتف الجوال، فبسبب رغبتها في مساعدة التواصل بين وحدات الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية، جلست ترسم وتفكر وتجرب، واقتبست من آلة البيانو حيث تتقافز المفاتيح ولكن تصدر نغمات منسجمة، فكرة «نطاق الطيف الترددي»، والقفز على الترددات spectrum spread/frequency hopping
وظلت أفكار ونظريات الممثلة الحسناء تلهم المهندسين حتى طوروا أنظمة تواصل لاسلكية يصعب اختراقها وشيئا فشيئا طوروا الهاتف الجوال، وكانت شركة موتورولا الأمريكية أول من طوره (1973)، وطرحته تجاريا عام 1983، وسمعنا به في العالم العربي في أواخر التسعينيات. وفي هذه اللحظة أمامي آيفون يهبل يئن كل بضع ثوان عندما يصلني إشعار من سي ان ان، أو رسالة من شخص آخر، أو إخطار من صديق عبر واتساب، بأن صابون كذا فيه «لحم خنزير» -يا للهول.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك