لم يكن سوى حلم، تصفحتُ حروفه على مهل سنوات طويلة، ولم أشك في يوم ما أن هذا الحلم سيلازمني مدى عمري.
لم أختلف معه أو أدعي بأنني أفضل منه سريرة، بل كنا معاً نحيك فتق جروحنا، ونغسل بالملح أوجاعنا، وعلى ملة واحدة حفظنا واجباتنا ودخلنا في لعبة الأيام، مرة هو يحكي إليّ همه وأخرى أحكي له همي.
تمر السنوات ونكبر معاً، ويختار لنا القدر طريقنا البعيد، هو في جهة يجدف نحو انشغالاته، وأنا في جهة معاكسة أجدف.
كلانا عرف غايته من الحياة، والطريق واحد وإن اختلف إلا أنّه أول شرارة أوجعتنا بالحريق جمعتنا معاً، هو يغرس في قلبه بذرة أول أيام الطفولة وأنا أشاطره ذلك الغرس من الحب الذي جمعنا ببعض جسداً وروحاً.
الحياة ركضت بنا سريعاً، وعلى جادة واحدة عصرنا عرق جسدينا ولم ننكسر في مطبات الأيام ولا السنين التي تصلبت بأقدامنا استطاعت أن تفرقنا عن بعض.
كان يحدثني بصوت رخيم عن رواية «الشيخ والبحر» للروائي همنجواي، وأنا أحدثه عن فصل من قصيدة الشاعر محمود درويش أو قصيدة للشاعر نزار قباني، بيني وبينه سرة واحدة لم تستطع أن تقطعها قسوة الأيام والسنين.
هو يعرف طينتي التي عُجنتْ من تنور أمي، وأنا أعرف ما يشغله وما يقلقه إذا اشتدّ به الحنين.
بطولاته أو مغامراته كانت حديث النساء وارجال في مدينتي والليل في عينيه بدراً يتغزل فيه الشعراء عندما يكتمل القمر منتصف الشهر، عندها تصحو ذاكرته فيحمل زنبيله المشحون بأنواع الورد.
يمرُّ على البيوت، يوزع قلبه على عتبات كل بيت، بفخر يقول: أنا ذلك الحلم الذي لم يمت، أنا الغريب والقريب منكم فلا تهجروني لأني لا استطيع مغادرة قلوبكم وإن قسيت عليكم فهذا نتاج محبتي لكم.
الكل من ساكني المدينة يدركون ذلك، يتغنون بحلمه الأول، وعلى سجادة التبتل يقرأون آيات من الذكر الحكيم.
يقولون بصوت واحد: لن نهجرك، أو نتجاسر على حلمك، أنت الهواء، أكسجين الحياة، فمهما بعدت ستعود لأن من ينتظرك لا زال ينوس وهو جالس على حصيرة الذكريات، يعرف أنك لم تهجر الكتاب ولم تغادر نبض القلب.
صبايا وصبيان ونساء ورجال، كبار وصغار كل يوم يسردون حكايتك يدونونها بدفاتر سنواتهم، لا يضجرون ولا يحزنون، ولا يعرفون معنى للهجرة، بحرهم ونخلهم واحد في الحب، وأنت في السيرة ذلك الطيف الملتحف بالحلم، النائم على وهج الحنين.
لكك في الانشغالات ما لنا في محبتك، سماء لا تغادر نجومها ولا يأفل القمر عن زرقتها، النجوم هي اليوم أنت منها ذلك الفتى المشحون بفيض المحبة وسلال العارفين بمعنى الحياة.
أدري إنك مولع بـ«ندى»، وندى قد كبرت في سطور حكايتك، لكنك لا تدري بأن الذي التفّ بحلمك لم يمل في خط سردياته بسردياتك ولم يتخلف يوماً أن يدعو على موائد محبيك رهط النوارس في عرس تكتظ به الساحات، ضمن زغردة الناس ومشاغبة الأطفال.
وهم بدورهم لم يتخلفوا عنك، حفظوا الدرس وعلى سفينة الأيام غادروا نحو كل الجهات ولم تروق لهم إلاَّ جهتك، فكن واثقاً بمن أخاط وجعك بالحلم وأصر على البقاء في الذاكرة ماء زلال العمر.
هو اليوم لا يزال مع حلمه الأول يستعيد الذاكرة ويرفض الخروج من شباكك، لأن كل الثقوب وإن ضاقت، فأنت تعرف سرها الأول وتكتب بهدوء قصتك التي لم تكتمل بطولاتها دون إلفتك ووفائك (لندى) وندى واعية تعيدكَ حرفاً يضيء ظلام وحشتها، ويقرع أبواب سنواتك بالشوق، فالقلب أوسع أن يضيق بمحبيه، وأوسع من كل الأبواب الشديدة في القفل!
a.astrawi@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك