بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في الخامس من نوفمبر2024، ونجاح «دونالد ترامب» في العودة إلى البيت الأبيض. يتوقع المراقبون، أن يسعى إلى تخفيض الضرائب على الشركات، وتشديد سياسات الهجرة، وزيادة الدعم لإسرائيل في حروبها بالشرق الأوسط، إضافةً إلى احتمالات تراجع «واشنطن» عن التزاماتها المتعلقة بتغير المناخ؛ ما قد يؤدي إلى تفاقم التوترات العالمية، الأمر الذي يثير تساؤلات حول مستقبل العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي في ظل رئاسته، التي تميل نحو تعزيز الحمائية، وتقليل الالتزامات الأمريكية على الساحة العالمية.
وكجزء من سياساته لتعزيز التصنيع والإنتاج الداخلي، من المتوقع أن يفرض قيودا صارمة على الواردات الأجنبية، وهي السياسات التي تستهدف بشكل مباشر المنافسين الاقتصاديين الرئيسيين للولايات المتحدة، وعلى رأسهم الصين. ويشير «ويليام رينش»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، إلى «أن شركاء أمريكا التجاريين حول العالم، سيواجهون تهديدات متجددة، بفرض رسوم جمركية قد تصل إلى 20% على جميع الواردات إلى «واشنطن»، مع ارتفاعات محتملة، تفوق الـ60% على بعض السلع من دول معينة.
وتُعد السياسات التجارية التي قد يتبناها حال عودته إلى الرئاسة، مصدر ضغط كبير على العلاقات الاقتصادية العالمية؛ مما يثير تساؤلات حول تأثيراتها المحتملة في الأسواق الدولية والإمدادات التجارية. وأكد «رينش»، أن أسلوب صنع القرار الذي يتبعه، والذي يتميز بقدر كبير من القابلية للتكيف، يجعل من الصعب تحديد ما إذا كان سينفذ تهديداته تجاه الدول التي طورت علاقات اقتصادية مع بلاده، بما في ذلك دول الخليج.
من جانبها، أشارت «سنام فاكيل»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، إلى أن شركاء «الولايات المتحدة»، في المنطقة يشعرون بالقلق إزاء تراجع اهتمامها بالصراعات الإقليمية، خاصة ما تقوم به إسرائيل في غزة، ولبنان. ومع التركيز المحتمل لترامب على سياسات اقتصادية تقييدية، قد يتم تسريع تحركات هذه الاقتصادات، نحو التركيز على أسواق أكثر ملاءمة في آسيا، والبحث عن شراكات جديدة تتناسب مع أولوياتها واستراتيجياتها الاقتصادية، بدلاً من الاعتماد على الغرب، الأمر الذي قد يُعيد تشكيل العلاقات الاقتصادية العالمية.
وفي عام 2023، بلغت قيمة واردات «الولايات المتحدة»، حوالي 3.1 تريليونات دولار، وهو ما يمثل حوالي 11% من ناتجها المحلي الإجمالي. وتضمنت السلع الرئيسية المستوردة؛ (النفط الخام، والمركبات الآلية، وأجهزة الكمبيوتر، والمنتجات البترولية المكررة، ومكونات الآلات). وقد شكلت «الصين»، مصدرًا كبيرًا لهذه السلع، حيث تعد أكبر شريك تجاري لها، ولأكثر من 12 دولة حول العالم، بما فيها دول الشرق الأوسط.
في السياق ذاته، أشار «جوناثان فولتون»، و«مايكل شومان»، من «المجلس الأطلسي»، إلى أن «بكين»، تتمتع بقوة كبيرة في التجارة العالمية، إذ ارتفعت صادراتها بنسبة 8.6% في يونيو 2024، مقارنة بالعام السابق. وفي محاولة للحد من نفوذها التجاري، أعلنت «إدارة بايدن»، في مايو 2024 فرض تعريفة جمركية بنسبة 100% على المركبات الكهربائية المصنعة بها، كما قام «الاتحاد الأوروبي»، بزيادة تعريفاته على وارداته منها من 10% إلى 45% على مدى السنوات الخمس المقبلة، وهي الإجراءات التي تعكس المنافسة المتزايدة بين القوى الاقتصادية الكبرى في الساحة الدولية، وتأثيراتها في التجارة العالمية.
ووفقا لـ«هيذر هيرلبورت»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، فبينما كان هدف الإدارة الديمقراطية المحتملة بقيادة «كامالا هاريس»، «تطوير أجندات أمنية اقتصادية مشتركة مع الحلفاء والشركاء»؛ فإن «ترامب»، «يسعى إلى تحقيق المصالح الاقتصادية على حساب الحلفاء والشركاء». ومن الرقم المذكور أعلاه البالغ 3.1 تريليونات دولار من الواردات إلى الولايات المتحدة في 2023، أوضح «بن تشو»، من شبكة «بي بي سي»، أن 80 مليار دولار من الرسوم الجمركية على هذه الواردات، تعادل حوالي 2% من عائدات الضرائب الأمريكية العام الماضي. وسجلت «هيرلبورت»، كيف زعم «ترامب»، أن زيادة الإيرادات «يمكن أن تمول تلك السياسة من خفض العجز إلى رعاية الأطفال، كل ذلك مع زيادة فرص العمل، وتعزيز السلام العالمي».
وفي مقابلة مع «جون ميكليثويت»، من وكالة «بلومبرج»، وصف التعريفات الجمركية بأنها «عبارته المفضلة»، مبررًا هذه السياسة بقوله: «سنخفض الضرائب على الشركات التي ستصنع منتجاتها في الولايات المتحدة، وسنحميها برسوم جمركية قوية». وأشار «رينش»، إلى استخدامه -إبان فترة رئاسته الأولى- «الرسوم الجمركية لمجموعة متنوعة من الأغراض»، بما في ذلك «تنويع سلاسل التوريد» المتعلقة بالصين، و«معالجة القدرة الفائضة العالمية» على الصلب والألمنيوم، فضلاً عن استخدامها «كورقة ضغط في المفاوضات مع أوروبا، والصين، وكندا، والمكسيك»، بشأن صفقات تجارية جديدة، بما يبقي النوايا نفسها في الأربع سنوات القادمة.
وفيما يتعلق بالتأثير العالمي لمثل هذه التدابير، رفض «مارتن وولف»، في صحيفة «فاينانشال تايمز»، هذه التعريفات باعتبارها «فكرة غريبة»، من شأنها أن «تلحق ضررًا جسيمًا بالتجارة الدولية، والاقتصاد العالمي، والعلاقات الدولية». وأوضح «دوغلاس إروين»، من «كلية دارتموث»، أن «اقتصادات العالم باتت الآن متشابكة للغاية مع بعضها البعض، وسيجلب تمزيقها وتفكيكها تدميرًا بشكل لا يصدق لواشنطن»، وهي الحجة التي يدعمها العديد من الأكاديميين والمؤسسات الاقتصادية.
وأظهرت دراسة أجراها مجموعة من الاقتصاديين بـ«جامعة شيكاغو»، في سبتمبر 2024، أن 95% منهم يتفقون على أن فرض رسوم جمركية كبيرة، يؤدي إلى تحمل المستهلكين التكاليف الرئيسية من خلال ارتفاع الأسعار، بينما فقط 2% يرون خلاف ذلك. كما توصلت «كيمبرلي كلاوزينغ»، و«ماري لوفلي»، من «معهد بيترسون للاقتصاد الدولي»، إلى أن مقترحات «ترامب»، للرسوم الجمركية ستؤثر سلبًا في العاملين الأمريكيين، حيث سيتعرض أفقر الفئات لانخفاض في الدخل بنسبة 4%، بينما سيعاني الأغنياء من انخفاض بنسبة 2%. وقدّر «بريندان ديوك»، من «مركز التقدم الأمريكي»، التكاليف الناتجة عن هذه السياسات ما بين 2500 و3900 دولار للأسر الأمريكية ذات الدخل المتوسط.
وعلى الرغم من انتقادات سياساته التجارية؛ إلا أنه لا يبدو متأثرًا بالمخاوف من فرض رسوم جمركية أشد على الواردات الأجنبية. وفي رده على تساؤل «ميكليثويت»، حول تأثير ارتفاع الرسوم الجمركية على الأسعار الاستهلاكية، والتي قد تجعل السلع أكثر تكلفة؛ أشار «ترامب»، إلى أن «تلك الزيادة قد تكون دافعًا للشركات للعودة إلى أمريكا، وإنشاء مصانع محلية». وعندما سُئل بشأن توقعات «اللجنة غير الحزبية للموازنة الفيدرالية»، بأن مزيج فرض الرسوم الجمركية، وتخفيض الضرائب قد يسهم في توسيع العجز في الميزانية ليصل إلى 7.5 تريليونات دولار خلال العقد القادم؛ انتقد شركاء واشنطن وحلفاءها، وأكد أنهم يستفيدون من الاقتصاد الأمريكي أكثر من أعدائه»، الأمر الذي يعزز موقفه تجاه الحمائية الاقتصادية، والسياسات الصارمة بشأن التجارة الخارجية.
على الجانب الآخر، لم يتم الكشف عن السياسات الاقتصادية المحتملة لـ«دونالد ترامب»، تجاه الشرق الأوسط، بما في ذلك دول الخليج. ومع ذلك، وكما أشارت «فاكيل»، فإن الأخير أوضح بجلاء نيته العودة إلى سياسة «الضغوط القصوى» ضد إيران؛ بهدف تقليل قدرتها على تمويل الجماعات التي تعمل بالوكالة في المنطقة.
وفي حين تتصاعد الهيمنة الصينية على العلاقات التجارية، من المتوقع أن تؤدي السياسات الحمائية المتوقعة في ولاية «ترامب»، إلى زيادة التأثير السلبي على الاقتصاد العالمي، مما قد يعزز الروابط مع «بكين»، والاقتصادات الآسيوية الأخرى. ووفقًا لبيانات مكتب الممثل التجاري الأمريكي، بلغ حجم التجارة بين الولايات المتحدة، والشرق الأوسط في عام 2022، نحو 212 مليار دولار، مع توازن بين الصادرات والواردات. وبالمقارنة، سجلت التجارة بين الصين والشرق الأوسط في نفس العام حوالي 430 مليار دولار. وتأكيدا لذلك، أشار «فولتون»، و«شومان»، إلى مكانة «بكين»، كأحد أكبر الشركاء التجاريين في الشرق الأوسط، حيث تعد الشريك التجاري الأول لكل من إيران، وإسرائيل، مؤكدين أنها تستغل علاقاتها الاقتصادية لتعزيز حضورها الدبلوماسي، حتى في الدول ذات المصالح المتعارضة جيوسياسيًا، مما يعكس تأثيرها المتنامي في الساحة الدولية.
وفيما حولت دول الخليج تركيز صادراتها من النفط والغاز الطبيعي من الولايات المتحدة، إلى دول شرق آسيا، مثل الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية؛ لا تزال هذه الدول تمثل مصدرًا مهمًا لصادرات أخرى، مثل المعادن، والأسمدة. وعلى سبيل المثال، بلغت صادرات الألمنيوم من الخليج 6.08 مليونات طن في عام 2023، وهو ما يعادل 9% من الإنتاج العالمي.
ومع عودة «ترامب»، المتوقعة، قد تتعرض هذه الصناعات لضغوط اقتصادية أكبر عند تصديرها إلى الولايات المتحدة؛ بسبب السياسات التجارية الصارمة التي قد تُفرض.
وعلى مستوى استراتيجي أوسع، أشارت «فاكيل»، إلى أن دول الشرق الأوسط وغيرها في الغرب تراقب باهتمام ما إذا كانت القيادة المقبلة للبيت الأبيض، ستتخذ خطوات أكبر لكبح جماح إسرائيل، وإيجاد حل للقضية الفلسطينية، أو على الأقل دعم عملية سلام. كما يسعى الشركاء الإقليميون لواشنطن إلى احتواء الدور التدخلي لإيران وبرنامجها النووي. ومع تركيز الإدارة الأمريكية المقبلة على السياسات الحمائية، التي قد تقلل من الروابط الاقتصادية مع المنطقة، بما في ذلك دول الخليج؛ قد تفتح هذه السياسات المجال أمام الصين لتعزيز وجودها في الشرق الأوسط. وكما أوضح «فولتون»، و«شومان»، فإن «بكين»، تسعى لاستغلال الفجوة التي قد تتسع بين واشنطن وشركائها في المنطقة، ما يساعدها على تعزيز مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة.
من جانبه، أشار «رينش»، إلى أن «ترامب» يُعرف بقدرته على عقد الصفقات، مستخدمًا التهديدات الاستفزازية، بما في ذلك فرض الرسوم الجمركية، كأداة للتفاوض وجذب الاهتمام. ورغم أن هناك شكوكًا حول تنفيذ هذه التهديدات بعد فوزه بالرئاسة مجددًا؛ فإن تصريحاته المتكررة تؤكد دعمه لسياسات الرسوم الجمركية الصارمة. ومن المحتمل أن إدارته ستسعى لتطبيق سياسات حمائية في التجارة الدولية. وحتى لو اقترح البعض أنه قد يرفع الرسوم الجمركية دون دراسة آثارها بالكامل؛ فإن «رينش»، يرى أن استبعاده من تنفيذ هذه السياسات سيكون خطأ كبيرًا بعد عودته إلى السلطة.
على العموم، في ضوء تصريحات «ترامب»، التي تشير إلى ضرورة تعزيز الحمائية، ومواجهة المنافسة، من المتوقع أن تشعر دول الشرق الأوسط، التي لطالما كانت شريكة اقتصادية للولايات المتحدة، بقلق متزايد بشأن فرض رقابة أكبر على صادراتها إلى الاقتصاد الأمريكي. ومع تزايد العلاقات الاقتصادية بين الشرق الأوسط والصين وغيرها من الاقتصادات الصاعدة في آسيا، قد تؤدي السياسات الأمريكية إلى تسريع هذه الشراكات، مما يعيد تشكيل الديناميات الاقتصادية في المنطقة لصالح الشرق بدلاً من الغرب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك