تناولت في المقال السابق رؤية دول الخليج العربي للتعاون مع الهند في مجال الأمن البحري، وكانت خلاصة المقال هي أن دول الخليج العربي التي تصنف كدول بحرية تواجه تحديات هائلة في مجال الأمن البحري، لذا فقد حرصت على تأسيس العديد من الشراكات وأوجه التعاون مع الأطراف المعنية بالأمن البحري وأمن الطاقة من بينها الهند، ولكن ما رؤية الهند للأمن البحري في منطقة الخليج العربي؟ تساؤل له أهميته بل يطرح دائماً عند الحديث عن أي استراتيجيات للدول الكبرى والمنظمات الدولية تجاه منطقة الخليج العربي، ومؤدى التساؤل هو هل لدى تلك الأطراف استراتيجية محددة تجاه الخليج أم أن منطقة الخليج يتم تناولها ضمن تلك الاستراتيجيات ويتفاوت ذلك الاهتمام وفقاً لمصالح كل دولة؟ في عام 2015 أعلنت الهند استراتيجيتها للأمن البحري التي تضمنت بشكل تفصيلي ما أطلقت عليه «نقاط الاختناق البحري» التي ترى الهند أنها بحاجة إلى تأمين وحماية من بينها مضيقا هرمز وباب المندب وقناة السويس، حيث نصت الاستراتيجية على أن «أي إغلاق لمضيق هرمز سوف يؤثر وبشدة على أمن الطاقة في العديد من الدول بما فيها الهند»، أما باب المندب فحال إغلاقه فإن ذلك سوف يتطلب سعة في الشحنات والناقلات عبر الممرات البحرية للحفاظ على معدل تدفق التجارة، أما قناة السويس فحال تعطل الملاحة فيها، فإن ذلك يعني زيادة تكاليف النقل البحري من خلال طريق رأس الرجاء الصالح، تلك الأهداف الواردة في استراتيجية الهند تلتقي مع رؤية دول الخليج العربي ذاتها، ومع أن صدور تلك الاستراتيجية لم يأت سوى بشكل متأخر نسبياً ضمن سياسة جديدة للهند تجاه المحيط الهندي فإنه لا يمكن الفصل بين توقيت صدورها واحتدام التنافس الإقليمي والعالمي في تلك المنطقة سواء من خلال التحالفات التي بدأت الصين في تأسيسها أو إعلان الولايات المتحدة سياسة التوجه نحو آسيا، ولكن ما يهمنا هو كيفية وضع استراتيجية الهند بشأن الأمن البحري موضع التطبيق؟ فمع أهميتها لكن لم تنخرط الهند بشكل مباشر لمواجهة تهديدات الملاحة في المنطقة كما هو الحال بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي أسست تحالفات عسكرية لهذا الغرض، ويمكن تفسير ذلك في سياسة الهند عموماً وهي الحياد وتحقيق التوازن في سياستها الخارجية، ولكن في الوقت ذاته فقد حرصت الهند حتى ما قبل صدور تلك الاستراتيجية المشاركة في التجمعات الإقليمية التي من بين أهدافها الحفاظ على الأمن البحري ومنها عضوية الهند في رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي والتي تأسست عام 1997 وتضم عدة دول، فإلى جانب الهند هناك دولتان من الخليج العربي وهما سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى اليمن ومع تعدد أهداف الرابطة فقد نص ميثاقها على ثلاث أولويات في مجال الأمن البحري وهي السلامة والأمن البحري، إدارة مصائد الأسماك، مخاطر الكوارث، ولا شك أنها جميعاً أهداف تحظى باهتمام دول الخليج العربي سواء الأعضاء في الرابطة أو بقية الأعضاء، بالإضافة إلى المنتدى البحري للمحيط الهندي والذي يضم من بين أعضائه الهند وأربع دول خليجية هي المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة وقطر، ويستهدف ذلك المنتدى مناقشة القضايا البحرية ذات الصلة بالمنطقة ضمن آلية تبادل المعلومات بين العاملين في المجال البحري وهو ما يعزز من الأمن البحري، بالإضافة إلى ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا والذي يتضمن ممراً بحرياً سوف يكون مفيداً لبعض دول الخليج العربي والتي تقوم بتنفيذ خطط للتنمية المستدامة، ولم يقتصر التعاون بين الهند ودول الخليج العربي في المجال البحري من خلال تلك التجمعات ولكن كانت هناك مؤشرات مهمة للتعاون الثنائي أشرت إلى بعضها في المقال السابق، بالإضافة إلى حرص القوات البحرية الهندية على إجراء مناورات مع بعض دول المنطقة ودور القوات البحرية الهندية لمواجهة تهديدات الأمن البحري في مضيق باب المندب وهو أمر ليس وليد اليوم وإنما تتواجد قوات بحرية للهند قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي منذ عام 2008 ضمن الجهود الدولية لمواجهة القرصنة انطلاقاً من هدف استراتيجي وهو تأمين طرق نقل الطاقة للهند كما ورد في استراتيجيتها البحرية التي نصت على ذلك الهدف وبوضوح. ولا شك أن خطط الهند للأمن البحري في منطقة الخليج العربي تتم وفقاً لكل حالة أي نشر القوات بناء على خطر محدد بما يعنيه ذلك من أن الهند لا ترغب في أن تكون قواتها البحرية في الخارج جزءًا من صراع أو تنافس، ولكن لا بد من الأخذ بالاعتبار أمرين مهمين الأول: أن العديد من القوى الإقليمية والدولية الآن لديها قواعد عسكرية بالقرب من الممرات المائية بما فيها الصين، فمنطقة القرن الإفريقي تستضيف الآن 19 قاعدة عسكرية تديرها 16 دولة وهو أمر يثير التساؤلات حال حدوث صراع بين تلك القوى وتأثير ذلك على أمن باب المندب على سبيل المثال، والثاني: أن الممرات المائية ومنها مضيق هرمز تقع ضمن ممر الهند -الشرق الأوسط- أوروبا وبالتالي أي توترات في ذلك المضيق سوف تؤثر بشكل مباشر على المصالح الحيوية للهند، وعود على ذي بدء، فإن هناك حرصا من جانب الهند لتأمين الملاحة البحرية في الممرات المائية المهمة التي تمر منها تجارتها من بينها احتياجاتها النفطية وضمن ذلك الحرص هناك العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم مع دول الخليج العربي للتعاون في الأمن البحري وهو أولوية لتلك الدول في الوقت الراهن وليس بالضرورة أن تكون مساهمات الدول الكبرى المعنية عسكرية من خلال الانخراط في تحالفات، حيث إنه يعتمد على نهج وسياسات تلك الدول تجاه العمل في المناطق خارج أراضيها، ولكن هناك أوجها عديدة للتعاون بين الهند ودول الخليج العربي منها التمرينات المشتركة لمواجهة الكوارث البحرية والتي تعد تحدياً كبيراً وخاصة كيفية التعامل مع بقع تلوث بحري كبيرة في ظل استمرار المواجهات في منطقة باب المندب وأيضاً المخاطر المحتملة في مضيق هرمز حال جنوح إحدى السفن. من ناحية ثانية، فإن دول الخليج العربي ضمن جهود تطوير قواتها البحرية، بحاجة إلى التكنولوجيا وخاصة في ظل توظيف الجماعات دون الدول لتلك التكنولوجيا لتهديد الأمن البحري، وأخيراً لا شك أن المناورات البحرية المشتركة التي تتضمن تمارين محاكاة على مواجهة مخاطر في أعالي البحار تعد مهمة للغاية.
مع وجود مصالح أخرى عديدة للهند مع دول الخليج، فإن الأمن البحري أصبح ذا أولوية وهو ما تعكسه استراتيجيات وسياسات الهند تجاه الخليج العربي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك