بعد الفوز الساحق الذي حققه دونالد ترامب في ماراثون الانتخابات الأمريكية الأخيرة، الذي بموجبه سيدخل البيت الأبيض ويتربع على عرشه في العشرين من شهر يناير المقبل ليكون بذلك الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، بدأ ترامب في التحرك سريعاً نحو اختيار أعضاء فريق إدارته المقبلة، وكان من الطبيعي أن تكون اختياراته مبنية على الكيمياء القائمة بينه وبينهم حول مقارباتهم للعديد من الملفات التي وردت في برنامجه الانتخابي أهمها: الهجرة والاقتصاد والتعليم والحروب في الشرق الأوسط.
في ضوء ذلك، فإن السؤال المهم الذي يطرحه المراقبون هو: هل سيختلف ترامب في ولايته الثانية عن ولايته الأولى؟
في اعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال، يمكن تلخيصها في ضوء متغيرين أساسيين أولهما السمات الشخصية له، أما الثاني فهو المتغيرات التي استجدت على الساحتين الأمريكية والدولية.
لنبدأ أولاً الحديث عن السمات الشخصية، في هذا السياق يذهب أغلب المحللين السياسيين إلى القول بأنه ليس سياسياً بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، فهو يختلف اختلافاً جوهرياً عن بقية الرؤساء الأمريكيين السابقين الذين امتهنوا السياسة قبل دخولهم الى البيت الأبيض.
أما عنه فهو فلم يمارس العمل السياسي في حياته إلا من خلال تجربته كرئيس ولايته الأولى، كما أننا لم نقرأ في سيرته الذاتية أنه كان عضواً في أي من الحزبين العريقين في الولايات المتحدة (الديمقراطي والجمهوري)، ونتيجة لذلك فليس لديه تجربة سياسية كسلفه.
على سبيل المثال، جو بايدن الذي قضى نصف عمره في العمل الحزبي وفي دهاليز السياسة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه لم يحصل على مؤهل تعليمي عال من إحدى الجامعات الأمريكية العريقة؛ فهو ببساطة شديدة رجل بسيط في أحاديثه لا يجيد لغة المثقفين والسياسيين وفذلكاتهم، ولا يستخدم الكلمات والعبارات الدبلوماسية للتعبير عن وجهة نظره حيال موضوع معين كما يفعل أغلب السياسيين، بمعنى آخر أنه مباشر في توصيل رسالته. وإن كل شهرته تتحدد في أنه رجل قادم من عالم السوق والعقارات، وأن خير توصيف له هو أنه «بيزنس مان». ومثل هذه الشخصيات لا يعرف صاحبها إلا لغة المال. ولا شك أن مثل هذه الصفات ستنعكس لا محالة على تصرفاته وستؤثر في جميع قراراته.
من هنا، أكاد أجزم بأن ثقافة السوق ستلازم ترامب، وستسيطر على تفكيره في ولايته الثانية لأنها جزء أصيل من شخصيته، وقد ثبت ذلك عملياً خلال فترة رئاسته الأولى في 2017. من هذ المنطلق نتوقع أن يسير ترامب على نفس النهج في المرحلة المقبلة ونستشف ذلك من خلال تصريحاته في حملته الانتخابية الأخيرة التي تؤكد هذا التوجه. خذ مثالاً موقفه من حلف «الناتو»، فكثيراً ما يطالب دوله بزيادة إنفاقها الدفاعي وتأكيده بأنه لن يسمح لهذه الدول أن تستغل بلاده نتيجة عدم وفائها بالعهد الذي تلتزم فيه بالإنفاق بنسبة 2% من ناتجها المحلي.
هذا يعني أنه لا يريد أن يُحَمْل الخزينة الأمريكية أعباء مالية من أجل سواد عيون الأوروبيين. ومن المنتظر أن يطبق ترامب هذه السياسة بصورة أكبر في ولايته الثانية؛ لأنه تحرر من القيود التي تكبله أثناء ولايته الأولى مثل مراعاته للناخبين، فهو الآن لا يحتاج إلى أصواتهم بسبب أنه سيكون للمرة الأخيرة في البيت الأبيض بحكم الدستور الأمريكي الذي لا يسمح له بالترشح للانتخابات المقبلة في عام 2028.
من جهة ثانية، تسيطر على ترامب حالياً أفكار تتقاطع مع بروفايل شخصيته النرجسية؛ فهو لا يريد أن يخرج من البيت الأبيض من دون أن يترك بصمة في سجل التاريخ الأمريكي من خلال انجازات تخلد ذكراه أسوة بغيره من الرؤساء الأمريكيين السابقين الذين يشار إليهم بالبنان كصناع للتاريخ الأمريكي أمثال: الرئيس جيمس ماديسون الذي لقب «بأبو الدستور» أو الرئيس أندرو جاكسون الذي عرف بسداد الديون. والرئيس إبراهام لنكولن محرر العبيد والرئيس دوايت أيزنهاور الذي أنهى الحرب الكورية.
أما المتغير الثاني الذي سيؤثر على سياسات ترامب في ولايته الثانية، فهو ما شهدته الساحة الأمريكية من تغيرات اجتماعية مست بقيم فئات ليست قليلة من المجتمع الأمريكي، وقد تم ذلك بفعل السياسات التي انتهجتها إدارة بايدن؛ حيث قامت هذه الإدارة بفرض قيم جديدة (المثلية والتحول الجنسي) على الأمريكيين، وقد أثارت هذه السياسات حنقهم وامتعاضهم وقد استثمر ترامب هذا الحدث ووظفه لصالحه وقال: إنه سيعمل على إزالة هذه الأفكار من مناهج التعليم المدرسية.
في ملف الاقتصاد الذي يعد ترامب أحد لاعبيه الأساسيين، فإنه سيمضي قدما في تطبيق سياساته الرامية إلى رد الاعتبار للصناعة والتجارة الأمريكيتين من خلال تخفيض الضرائب وزيادة الرسوم الجمركية على الواردات، ولا شك أن مثل هذه الإجراءات ستؤثر حتماً على انسياب حركة التجارة العالمية وعلى العالم أن يستعد من الآن لمواجهة هذه السياسات.
بقي أن نقرأ أفكار ترامب في ملف الحروب في العالم، وما هي توجهاته في ولايته المقبلة؟
في هذا الملف، نجد أن ترامب أطلق وعوداً أثناء حملته الانتخابية بأنه سيعمل على إنهاء الحروب في العالم وكان دائماً يتباهى بخلو عهده منها خلال فترة ولايته الأولى (2017-2020) ولذلك فإنه سيسعى في ولايته الثانية إلى إطفاء النيران في العالم بمجرد دخوله الى البيت الأبيض وأن بداية الانطلاق عنده ستكون من أوكرانيا، حيث إن لديه ثقة كبيرة في اقناع أطراف الحرب وبالأخص روسيا لعلاقته الوثيقة مع بوتين على وقفها من خلال الحلول الدبلوماسية.
ونتيجة لتصريحاته بشأن الحرب الأوكرانية ظهرت بوادر في الأفق توحي باقتراب نهايتها وتجسم ذلك في تصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي الأخيرة التي قال فيها: إنه يؤثر الحل الدبلوماسي على الحل العسكري لأزمة بلاده، كما أن دخول المستشار الألماني شولتس على الخط عبر تصريحاته الأخيرة بشأن الحرب في أوكرانيا، وهو قطب أساسي في حلف الناتو، سيدفع بالتأكيد إلى نجاح ترامب في مساعيه إلى وقفها.
لكن فاته أن يقول لنا كيف سينهي مأساة الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وما يعانيه أهلها جراء القتل والتنكيل والتشريد الذي يقوم به جيش الاحتلال الصهيوني في أراضيهم.
إن تجربتنا مع ترامب في ملف القضية الفلسطينية لا تسر أحدا، حيث إن هواه وميوله صهيونية، ولذلك فإن كل مبادراته تصب في صالح الكيان الصهيوني. وقد عبر أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة عن تعاطفه الكبير مع هذا الكيان، ولا اعتقد أنه سيغير من جلدته وسيحيد عن هذا التوجه خلال ولايته الثانية لأن المسألة في رأيي متعلقة بالإيمان العقدي وبصورة العرب والمسلمين في ذهنه، والكتاب يعرف من عنوانه كما يقول المثل العربي، وهذا ما يجعلنا قليلي الثقة فيه ولا نطمئن إلى تصرفاته. ومع ذلك لننتظر ما تكشفه الأيام في ولايته الجديدة لعله يفعل شيئاً مغايراً يدفعنا إلى التخلي عن مثلنا العربي ونأخذ بالمثل الغربي الذي يقول: لا تحكم على الكتاب من غلافه Ever judge the book by its cover.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك