بقلم: د. خالد خليفة السّعد
يحرص عديد من الملوك والرّؤساء في عالمنا العربيّ والإسلاميّ – لا سيّما في هذه المرحلة – على إقامة التّحالفات السّياسيّة والعسكريّة بين بلدانهم والبلدان الأجنبيّة الكبرى.
والموقف المبدئيّ من هذه التّحالفات يتوقّف على ما ترمي إليه من أهداف، وما تحتويه من شروط.
فما دامت هذه التّحالفات تحقِّق لبلداننا ولأمّتنا مصالح حقيقيّة لا وهميّة، وما دام فعل ذلك ليس على حساب ديننا وسيادة دولنا، أو الخروج عمّا فرضه الله علينا من أحكام وما أنزله من شرائع، ولا يترتّب عليه خذلان لقضايا المسلمين أو تقاعس عن الدّفاع عن حقّ من حقوقهم.
فإذا انتفت هذه المحاذير فنرجو ألاّ يكون في تلك التّحالفات بأس ولا ضير.
وقد حالف النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في صلح الحديبية قبيلة خُزاعة، وأجاز التّحالف مع كلّ مَنْ يُرجى منه خير للمسلمين، وقال عن حِلْفٍ عقده بعض وجهاء قريش في الجاهليّة لنصرة المظلومين عُرِفَ باسم حِلْفِ (الفُضُول) أو حِلْفِ (المُطَيَّبِين): (شهدت حِلْفَ المطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحِبُّ أنّ لي حُمْرَ النَّعَم وإنّي أنْكُثُهُ) [رواه أحمد في مسنده 1655 بإسناد صحيح].
فكلّ تحالف أو اتّفاق بين النّاس يقوم على التّعاون على الخير وإقامة الحقّ فإنّ الإسلام يرحّب به ويزيده قوّة وتوثيقًا، لأنّه يتّفق مع أصوله ومقاصده في تعزيز الأمن والسّلام العالميّين، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «وَأيُّما حِلْفٍ كان في الجاهلّية، لم يَزِدْهُ الإسلامُ إلاّ شِدَّةً» [رواه مسلم في صحيحه 2530].
وكما عُنِيَ الإسلام بتوثيق عُرى الأخوّة الإسلاميّة بين المسلمين بعضهم ببعض، عُنِيَ أيضًا بتوثيق عُرى الأخوّة الإنسانيّة بين المسلمين ومَنْ سالمهم من الشّعوب والأمم. ففي سورة (الحجرات) وجّه الله تعالى المؤمنين إلى ضرورة الإصلاح بينهم: (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]، فلا ينبغي أن يكون بين المؤمنين نزاع أو اختلاف أو تقاتل، بل تآلف ومحبّة وتعاون. ثمّ وجّه سبحانه بعد ذلك إلى ضرورة التّعامل مع الآخرين بالمعروف، وإقامة علاقات التّفاهم والتّعارف معهم فقال: (يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
يلي هذا الشّطر من المقالة أمرٌ في غاية الأهمّيّة، ولا ينبغي أن يغيب عنّا ونحن نسعى إلى تأمين أوطاننا وَصَوْنِ حاضرها ومستقبلها، ألا وهو تحسين علاقتنا بخالقنا سبحانه، والتّحالف مع الله تبارك وتعالى، فهو وحده الضّارّ النّافع، الخافض الرّافع، المعزّ المذلّ، القادر المهيمن، الجبّار القهّار، مالك الملك، ومَنْ بيده مقاليد كلّ شيء.
التّحالف مع الله لا يحتاج منّا إلى تملّق ومجاملات ومفاوضات، ولا إلى إراقة ماء الوجه والتّعرّض للهوان والإذلال مثلما يقع للمتفاوضين مع قادة تلك الدّول. بل التّحالف مع الله يزيد المؤمنين عزّة وكرامة، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النّساء: 139].
والله تعالى لا يخذل ولا يخلف من وَفَّى بعهده معه: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ ولكن أكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الرّوم: 6]. أمّا البشر فلا ينبغي الرّكون إلى تحالفاتهم والاطمئنان إليها، لأنّه ليس لهم صداقات دائمة، فلا يأمن المسلم من غدرهم، والتّاريخ والواقع شاهدان على ذلك، حيث تكثر منهم الخيانة والإخلاف، ففي ساعة الصّفر لا يعنيهم إلاّ مصالحهم وحدهم، ولا يبالون بما يصيب حلفاءهم بعد ذلك، وقد كشف الله حقيقتهم بقوله: (كَيْفَ وإنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلًّا وَلَا ذِمَّةً) [التّوبة: 8] أي لا يراعون فيكم أمانًا ولا عهدًا عاهدوكم عليه، وإذا رأوا مصلحتهم مع المسلمين أظهروا لهم خلاف ما يضمرونه في أنفسهم من العداوة والبغضاء، تمامًا كما قال تعالى: (يُرْضُونَكُمْ بِأفْوَاهِهِمْ وَتَأبَى قُلُوبُهُمْ وَأكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) [التّوبة: 8].
ثمّ التّحالف مع الله مضمون النّتائج، فقد تكفّل سبحانه بنصر من والاه: (إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) فينصر المؤمنين ويدفع عنهم بأس الكافرين ويبطل مكرهم، وإن كان مكرهم من القوّة والتّأثير ليؤدّي – كما أخبر القرآن – إلى زوال الجبال.
فمهما تحالفنا مع أعدائنا لتوفير الحماية لدولنا عبر معاهدات ومواثيق، لن يُجدينا ذلك نفعًا، وبخاصّة إذا كانت علاقتنا بالله ضعيفة: (إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160].
هناك شرط واحد فقط مقابل الدّخول في حماية الله ولن يكلّفنا كثيرًا، ألا وهو: (طاعة الله)، بتحليل ما أحلّه، وتحريم ما حرّمه، واعتماد ما شرعه مرجِعًا للخطط والسّياسات والبرامج، فذلك مقتضى قولنا (لا إله إلاّ الله)، وهو دليل حبّنا له سبحانه: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 31-32].
فكيف ننشد العيش في سلام، والإنجاء من الأخطار، إذا كان هذا الشّرط بعيدًا عن اهتمامنا، وخارج دائرة تفكيرنا ونطاق عملنا؟!
أسأل الله تعالى أن يبصّرنا بعيوبنا، ويعيننا على تدارك أخطائنا، وإصلاح نفوسنا، قبل انقضاء المهلة الزّمنيّة الّتي يمنحها القَدَرُ الأعلى للدّول والشّعوب، كي تعدّل من أوضاعها، وتحسّن صلتها بخالقها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك