بقلم: د. خالد خليفة السعد
ما أكثر الأشياء الّتي يحتاج الإنسان في حياته إلى الحذر منها والتّحصّن من شرورها، فالحياة حافلة بمخاوف كثيرة، فهناك الخلائق الضّارّة والمؤذية من حوله، وهناك الوساوس الشّيطانيّة والهواجس النّفسيّة الّتي لا تكاد تفارقه.
والمسلم لا يجوز له أن يطلب الحفظ والأمان إلاّ من الله تبارك وتعالى، فهو وحده القادر على كلّ شيء، وبيده وحده الضّرّ والنّفع، ولهذا أمر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام أن يلتجئ إليه ويستعيذ به، فقال سبحانه: (وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصّلت: 36]، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق: 1-2]، (قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إلَهِ النَّاسِ. مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) [النّاس: 1-4]. فالاستعاذة بالله تعالى تعصم الإنسان الضّعيف من آفات كثيرة يغفل عنها، وتقيه ما يعترضه في حياته من عوائق وأشواك.
وللنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أدعية واستعاذات كثيرة وبليغة، لم يدع فيها منفذًا يمكن أن يتسلّل منه إلى الإنسان شرّ أو بليّة في دينه أو دنياه إلاّ سدّه وحصّنه، من ذلك ما رواه أحمد في مسنده (13674) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللّهمَّ إنّي أعوذُ بِكَ مِنْ علمٍ لا يَنفَع، وعملٍ لا يُرفَع، وقلبٍ لا يَخشَع، وقولٍ لا يُسمَع».
أوّل استعاذة تضمّنها هذا الحديث: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من علمٍ لا يَنفع»، وهي دعوة إلى التّمييز وحسن الاختيار، وتعلّم ما يفيد من العلوم والمعارف والحذر من تعلّم ما يضرّ منها ولا ينفع، كالسّحر والأفكار الّتي تلوّث العقول، وكالأدوات التّي تحرّض على الضّلال والانحراف. فمن أراد أن يقتني كتابًا أو مجلّة أو رواية أو أيَّ وسيلة أخرى من وسائل التّعلّم والتّثقّف، فليحرص على اقتناء ما يزيده إيمانًا بربّه وخشيةً له وتمسّكًا بشرعه. وكذلك تتضمّن هذه الاستعاذة توجيهًا للقائمين على التّعليم بأن يُنقُّوا مناهجهم ويطهّروها من كلّ دخيل أو عليل، ويُقوّوا فيها جانب الخير والصّلاح، وفي طليعتها التّربية الإسلاميّة الّتي من شأنها أن تبني وتعمّر، وترسم للفرد وللمجتمع طريق السّعادة والنّجاح في الدّنيا والآخرة.
والاستعاذة الثّانية: (وعملٍ لا يُرفع) أي لا يُرفع إلى مقام القَبول والرّضى، إمّا لأنّه فاسد في نفسه، أو لافتقاده شرط الإخلاص، ولهذا قرّر القرآن: أنّ كلّ عمل لا يُبتغى به وجه الله ولا يكون مشروعًا، لن يحوز القبول عند الله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110] أي لا يرائي بعمله أحدًا من النّاس. والعمل الصّالح ليس مقصورًا على الشّعائر الدّينيّة كالصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والذّكر والدّعاء وإن كانت هذه تأتي في المقدّمة، ولكنّه يشمل كلّ عمل ونشاط يقوم به المسلم فيحقّق من ورائه خيرًا ونفعًا مشروعًا لنفسه أو لأسرته أو لوطنه أو لأمّته أو للإنسانيّة كلّها، وما أكثر هذه الأعمال والمنافع.
أمّا الاستعاذة الثّالثة فهي: (وقلبٍ لا يَخشع) أي لا يخضع لخالقه ولا يلين بوعد أو وعيد، وهذه هي القسوة الّتي حذّرنا الله تعالى منها: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد: 16] أي صلبت بحيث لا تنفعل لطاعة، ولا تقبل موعظة. وغالبًا ما يكون السّبب من وراء ذلك: الإعراض عن ذكر الله وعن الصّلاة والاغترار بالدّنيا وتعاطي المقالات المفسدة للعقول والقلوب. أمّا العلم النّافع فإنّه يورث الخشوع في القلب، والخضوع للرّبّ.
وأمّا الاستعاذة الرّابعة فهي: (وقولٍ لا يُسمع) وفي بعض ألفاظ الحديث: (ودعاءٍ لا يُسمع)، أي لا يُستجاب له ولا يرتفع فوق الرّؤوس شبرًا، فإنّ الله عزّ وجلّ كما جاء في الحديث الّذي رواه التّرمذيّ في سننه 3488: (لا يستجيبُ دُعاءً مِنْ قلبٍ غافلٍ لاهٍ)، إنّما يستحقّ الدّعاءُ الاستجابةَ إذا كان الدّاعي مخلصًا نيّته، مُحْضِرًا قلبه، مؤدّيًا للطّاعات، متعفِّفًا عن الحرام، وقد قال عليه الصّلاة والسّلام لسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: «أَطِبْ مَطْعَمَك، تَكُنْ مُستجابَ الدَّعوة» رواه الطَبرانيّ في المعجم الأوسط (6495).
اللّهمَّ إنّي أَعوذُ بِكَ مِنْ علمٍ لا يَنفَع، وعملٍ لا يُرفَع، وقلبٍ لا يَخشَع، وقولٍ لا يُسمَع.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك