بقلم: عاطف الصبيحي
كثيرا ما يستوقفني التقديم والتأخير في كتاب الله العزيز، وهو أسلوب مُتبع في كلام الله، وله دوافعه كما له دلالاته التي يُطلب منا التقاطها، والوقوف عندها، فخلق الكون كله آية من آيات عناية الله بالناس، فتسخيره سبحانه وتعالى كل شيء لخدمة الناس على وجه الأرض، لخير دليل على أهمية هذا المخلوق عند خالقه، وفي هذا الصدد عدد كبير من الآيات التي تفصل في التسخير الرباني من الخلائق العظيمة لتسهل حياة الناس، ونحن هنا في هذه الكلمات القليلة لسنا بصدد استعراض الشواهد التسخيرية من الله للناس، ودلالة ذلك، وانعكاس ذلك، وأهمية ذلك، إنما سنذهب إلى شيء يستحق الوقوف فيما أرى.
أمام هذا التسخير الهائل للكون الهائل من أجل خدمة وتسهيل حياة الناس على الأرض، هناك ما هو أهم من ذلك وهو ابتداء الحب من الله للإنسان، فالله سبحانه يقول في محكم التنزيل (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) فأمام هذه النِعم التي لا حصر لها يُفترض أن يكون حبنا لله سابق في الترتيب حسب الآية الكريمة، لأنه أحطنا بما يعجز اللسان والجنان عن تعداده من النِعم، ومع ذلك قدّم محبته لنا في النص على حبنا له سبحانه وتعالى، وهو المستحِق للحب بجدارة مُطلقة.
وعند تفحص الأمر نجد أن الكتاب المنشور، كتاب الكون كله ناطق بصمت بمحبة الله لنا، كمخلوقات مُكرمة عند الله، فلا غرو أن يكون التقديم لمحبة الله لنا في الكتاب المسطور وهو القرآن العظيم، فكلا الكتابين يعلنان مدى محبة الله لنا، ومدى سِعة الرحمة الربانية بنا كبشر وغير بشر، فرحمته وسعت كل شيء في الأرض والسماء، والشذوذ إنما جاء من البشر حصراً، والوبال صناعة بشرية بامتياز.
والنص الكامل لقول الله المراد منه المقال هو (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) 54 المائدة، فربنا سبحانه وتعالى ومن باب ربوبيته الكريمة أمر بتسخير كل شيء ليحيا الإنسان على الأرض حياة طيبة، وفي ذات الوقت يكون هذا التسخير مادة التفكر بهذا الرب الكريم كإله، فنقبل عليه طائعين مختارين معترفين بألوهيته، فإن لم يكن لنا أدنى خيار بربوبيته، فهو رب كل شيء، وربنا شئنا أم أبينا، والقسم الشائع عند العرب قبل الرسالة هو« ورب الكعبة» فهو بمثابة الاعتراف القهري بالربوبية، إنما الاعتراف بالألوهية المرتبطة بالربوبية ما أرادها الله إلا عن رضا ومحبة، ولعل هذه نقطة الخلاف الأساسية بين الرسول الكريم وزعامة القوم في مكة، إنه دعاهم إلى عبادة الله طوعاً وليس كرهاً، فهم اتفقوا على ربوبية الله، واختلفوا على ألوهيته، لذا جاء نص الآية بما يُشير لهذا المعنى (يا أيها الذين آمنوا) .
ومن مظاهر محبة الله للناس هو الذي يلهمهم التوبة في حالة العصيان والمعصية، وهنا تقديم للفعل الإلهي على الفعل البشري الذي هو تحصيل حاصل للتوفيق الإلهي له (ثم تاب عليهم ليتوبوا) وما التسخير والتهيئة للتوبة إلا علامة حب الله للناس، والرضا كذلك يأتي ابتداءً من الله ثم يعقبه رضا المؤمنين (رضي الله عنهم ورضوا عنه..)، فترى الرفق منه سبحانه وتعالى يحيط بالناس وبالمؤمنين إحاطة السوار بالمعصم، وذلك فضل يليق به رب الناس وإله الناس.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك