العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

يوميات سياسية

السيـــــــد زهـــــــره

أزمة ثقة.. أزمة قيادة

إذا‭ ‬كانت‭ ‬فضيحة‭ ‬وثائق‭ ‬البنتاجون‭ ‬المسربة‭ ‬قد‭ ‬وضعت‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬ورطة،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬التصريحات‭ ‬التي‭ ‬أدلى‭ ‬بها‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬ماكرون‭ ‬لتضعها‭ ‬في‭ ‬ورطة‭ ‬أخرى‭ ‬وتفجر‭ ‬أزمة‭ ‬لها‭.‬

الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬زيارته‭ ‬للصين‭ ‬أثار‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬الوضوح‭ ‬والحسم‭ ‬أهمية‭ ‬فك‭ ‬تبعية‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬لأمريكا‭.‬

‭ ‬ماكرون‭ ‬طرح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬عدة‭ ‬نقاط‭ ‬تشكل‭ ‬تحولا‭ ‬كبيرا‭.‬

1‭ - ‬أن‭ ‬أوروبا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقاوم‭ ‬الضغوط‭ ‬الرامية‭ ‬لتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬تابعة‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وأن‭ ‬تقلص‭ ‬ارتباطها‭ ‬بأمريكا‭.‬

2‭ ‬‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تنجر‭ ‬إلى‭ ‬مواجهة‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والصين‭ ‬بشأن‭ ‬تايوان‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬مصلحة‭ ‬أوروبا‭ ‬تسريع‭ ‬حدوث‭ ‬أزمة‭ ‬حول‭ ‬تايوان‭. ‬

3‭ ‬‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬‮«‬تقليل‭ ‬اعتمادها‭ ‬على‭ ‬الدولار‭ ‬الأمريكي‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭ ‬الإقليمية‮»‬‭.‬

هذا‭ ‬أعنف‭ ‬انتقاد‭ ‬لمواقف‭ ‬وسياسات‭ ‬أمريكا‭ ‬ولطبيعة‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭. ‬وماكرون‭ ‬طرح‭ ‬آراءه‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬رؤية‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬أوروبا‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬قوة‭ ‬عالمية‭ ‬عظمى‭ ‬مستقلة‭ ‬استراتيجيا‭ ‬عن‭ ‬أمريكا‭.‬

الدعوة‭ ‬لاستقلال‭ ‬أوروبا‭ ‬عن‭ ‬أمريكا‭ ‬ليست‭ ‬جديدة،‭ ‬لكنها‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬رئيس‭ ‬دولة‭ ‬أوروبية‭ ‬كبيرة‭ ‬مثل‭ ‬فرنسا‭ ‬وتطرح‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬الصراحة‭ ‬والوضوح‭.‬

الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يفزع‭ ‬أمريكا‭ ‬فيما‭ ‬قاله‭ ‬ماكرون‭ ‬إنها‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬دعوته‭ ‬هذه‭ ‬لم‭ ‬تأت‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬وإنما‭ ‬وراءها‭ ‬قاعدة‭ ‬من‭ ‬التأييد‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬والمجتمعات‭ ‬الأوروبية‭. ‬كما‭ ‬يفزعها‭ ‬ان‭ ‬الدعوة‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬حرج‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬وصراعها‭ ‬مع‭ ‬روسيا‭ ‬والصين‭ ‬ومساعيها‭ ‬لحشد‭ ‬تأييد‭ ‬حلفائها‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭.‬

‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬حكومات‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسها‭ ‬تتبنى‭ ‬دعوة‭ ‬ماكرون‭ ‬إلى‭ ‬الاستقلال‭ ‬عن‭ ‬أمريكا،‭ ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬قادتها‭ ‬لا‭ ‬يعبرون‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬علنا‭.‬

الحكومات‭ ‬الأوروبية‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬شعبي‭ ‬كبير‭ ‬جدا‭ ‬بسبب‭ ‬تبعيتها‭ ‬لأمريكا‭ ‬والثمن‭ ‬الفادح‭ ‬الذي‭ ‬تدفعه‭ ‬جراء‭ ‬ذلك‭.‬

الذي‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬أزمة‭ ‬حرب‭ ‬اوكرانيا‭ ‬كانت‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب‭ ‬الأوروبية‭ ‬هي‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬دفع‭ ‬ثمنها‭. ‬أمريكا‭ ‬أجبرت‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬على‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬السياسية‭ ‬والعقوبات‭ ‬ضد‭ ‬روسيا‭ ‬انسياقا‭ ‬وراء‭ ‬الموقف‭ ‬الأمريكي‭. ‬كانت‭ ‬النتيجة‭ ‬أزمة‭ ‬كبرى‭ ‬غرقت‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭.. ‬أزمة‭ ‬طاقة‭ ‬وأزمة‭ ‬أسعار‭ ‬سلع‭ ‬أساسية‭ ‬وأزمات‭ ‬معيشية‭ ‬هائلة،‭ ‬واستنزاف‭ ‬للموارد‭ ‬الأوروبية‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬أوكرانيا‭.‬

والذي‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬قطاعا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬النخبة‭ ‬الأوروبية‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬ومحللين‭ ‬كتبوا‭ ‬ينتقدون‭ ‬انسياق‭ ‬أوروبا‭ ‬وراء‭ ‬امريكا‭ ‬واعتبروا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التبعية‭ ‬هي‭ ‬اكبر‭ ‬اسباب‭ ‬الأزمات‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منعا‭ ‬الأوروبيون‭ ‬وطالبوا‭ ‬بنفس‭ ‬ما‭ ‬طالب‭ ‬به‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي،‭ ‬أي‭ ‬عدم‭ ‬الانسياق‭ ‬وراء‭ ‬أمريكا‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭.‬

وهناك‭ ‬بالطبع‭ ‬تيار‭ ‬شعبي‭ ‬واسع‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬له‭ ‬الرأي‭ ‬نفسه‭ ‬وعبر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مظاهرات‭ ‬واحتجاجات‭ ‬ويضغط‭ ‬على‭ ‬الحكومات‭ ‬الأوروبية‭ ‬كي‭ ‬تفك‭ ‬ارتباطها‭ ‬مع‭ ‬أمريكا‭ ‬ويعتبر‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬سيخفف‭ ‬الأزمات‭ ‬الطاحنة‭ ‬التي‭ ‬تغرق‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬وتعاني‭ ‬منها‭ ‬الشعوب‭.‬

بالطبع‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬هذه‭ ‬الضغوط‭ ‬غير‭ ‬الرسمية‭ ‬على‭ ‬الحكومات‭ ‬الأوروبية،‭ ‬أن‭ ‬دعوة‭ ‬ماكرون‭ ‬سوف‭ ‬تستجيب‭ ‬لها‭ ‬تلقائيا‭ ‬أو‭ ‬سريعا‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭. ‬فحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬أمريكا‭ ‬تحكم‭ ‬قبضتها‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬الحكومات‭ ‬الأوروبية‭.‬

لكن‭ ‬خطورة‭ ‬هذه‭ ‬التصريحات‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬أنها‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تشجع‭ ‬حكومات‭ ‬أوروبية‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تتخذ‭ ‬الموقف‭ ‬نفسه‭ ‬علنا‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬بداية‭ ‬لحركة‭ ‬استقلالية‭ ‬أوروبية‭.‬

على‭ ‬العموم،‭ ‬تصريحات‭ ‬ماكرون،‭ ‬وأيضا‭ ‬فضيحة‭ ‬الوثائق‭ ‬السرية‭ ‬المسربة،‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬ازمتين‭ ‬كبيرتين‭ ‬لأمريكا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر‭.‬

الأولى‭: ‬أزمة‭ ‬ثقة‭ ‬بين‭ ‬أمريكا‭ ‬وحلفائها،‭ ‬وتوجه‭ ‬بعض‭ ‬أوثق‭ ‬الحلفاء‭ ‬مثل‭ ‬بعض‭ ‬الحلفاء‭ ‬الأوروبيين‭ ‬نحو‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬لأمريكا‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬أسرها‭.‬

والثانية‭: ‬أزمة‭ ‬قيادة‭ ‬أمريكية‭ ‬للتحالف‭ ‬الغربي‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬للنظام‭ ‬العالمي‭.‬

من‭ ‬البديهي‭ ‬أن‭ ‬تعتبر‭ ‬أمريكا‭ ‬أن‭ ‬مواقف‭ ‬ماكرون‭ ‬والمواقف‭ ‬الشبيهة‭ ‬لها‭ ‬تضعف‭ ‬موقفها‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬صراعها‭ ‬الممتد‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬وروسيا‭ ‬والذي‭ ‬تعتبر‭ ‬أن‭ ‬الفوز‭ ‬فيه‭ ‬سيحدد‭ ‬استمرار‭ ‬موقعها‭ ‬القيادي‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

وعموما،‭ ‬هذه‭ ‬الأزمات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬أمريكا‭ ‬ليست‭ ‬جديدة‭ ‬وليست‭ ‬وليدة‭ ‬التطورات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وإنما‭ ‬بدأت‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬بسبب‭ ‬عنجهيتها‭ ‬وسياساتها‭ ‬العالمية‭ ‬وعدم‭ ‬اكتراثها‭ ‬بمصالح‭ ‬حلفائها‭.‬

إقرأ أيضا لـ"السيـــــــد زهـــــــره"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا