تُعد الروائيّة البولندية أولغا توكارتشوكOlga Tokarczuk الحائزة جائزة نوبل للآداب عام 2018 واحدة من أبرز كاتبات السردية الجديدة في بولندا وأوروبا الشرقية. وقد كانت روايتها «كتب يعقوب»Books of Jacob» »، هي الرواية التي جذبت انتباه لجنة تحكيم جائزة نوبل إلى كتابة توكارتشوك المغايرة في مضامينها وفي أساليبها السرديّة. وفي هذه الرواية تعيد تفكيك تاريخ بولندا منذ أوروبا العصور الوسطى إلى الحقبة الشيوعية. وهي في رواياتها كما جاء في بيان إعلان الجائزة «لا تنظر إلى الواقع بوصفه شيئًا مستقرًا أو دائمًا، بل تضع رواياتها في توتر بين الأضداد الثقافيّة: الطبيعة مقابل الثقافة، العقل مقابل الجنون، والذكور في مقابل الإناث، والمنزل في مقابل الاغتراب». كما أنها تشتغل على الخيال السردي المتمثّل في أنَّ العاطفة الموسوعيّة تمثل عبور الحدود بوصفه شكلاً من أشكال الحياة.
تصف أولغا توكارتشوك نفسها بأنها شخص من دون سيرة شخصية؛ إذ تقول في مقابلة مع مؤسسة الكتاب البولندية: «لا أملك سيرة واضحة جدًا يمكنني أن أسردها بطريقة مثيرة للاهتمام. أنا مجموع هذه الشخصيات التي تخيّلتها واخترعتها. أنا مؤلَّفة من كلِّ هذه الشخصيات؛ لذا سيرتي ضخمة ومؤلَّفة من حبكات عدة». وتمتاز توكارتشوك بالنزعة الإنسانيّة في كتابتها، وفي سردها يمتزج تخصصها الأكاديميّ في علم النفس بالسرود الجماعيّة المخترعة لحيوات آلاف البشر في سردٍ توثيقيّ تخييليّ يختلط فيه المنطقيّ باللامنطقيّ في عوالمَ دائمة الحركة من دون توقّف، ومن دون نقطة ارتكاز، ومن دون ثبات. وفي النهاية سنجد أنفسنا أمام لعبة أحجية كبرى مُكوّنة من مئات السرود الجماعيّة التي تبحث عن الحقيقة، ولا تصل إليها إلا من خلال تجاوز الحدود وتجاوز الأشكال، واللغات الجامدة! وكتابة توكارتشوك السردية تسعى إلى البحث عن حالة من تمثلات الجوهر البشري، وهي مزيج من الواقعية السحرية والانشغالات النفسية، وسردياتها هي حالات من التشظي التنوعي التي لا تسمح لقصصها أن تنتهي كما يحب القارئ لها أن تكون.
روايتها «رحلات Flights» هي الرواية التي حازت بها جائزة المان بوكر الدوليّة مناصفة مع المترجمة، وذلك في عام 2018 أيضًا. في هذه الرواية تُساءل توكارتشوك سؤالاً فلسفيا عميقًا جدًا وجوهريًا هو: ما الأسباب الخفية، الشجاعة، والمتهورة_ التي تجعلنا نغامر بالارتحال إلى العالم؟! من أين أنتَ؟ من أين أتيتَ؟ إلى أين تذهب؟ هذه هي الأسئلة الأزلية التاريخيّة التي ينبغي على المسافر في أيّ زمان، وفي أيّ مكان أن يجيب عنها. وتستكشف توكارتشوك في هذه الرواية سجلاً شاملاٍ للطرق التي يكون فيها السرد عابرًا للحدود وشكلاً من أشكال الحياة. وحده الإنسان الحقيقي هو الذي يسافر وهو وحده الذي يدرك حقيقة السفر في جوهره: فالبرابرة_كما تقول توكارتشوك_لا يسافرون، هم ببساطة يذهبون إلى وجهاتٍ معينةٍ أو يشنون غارات». إنَّ هذه الرواية هي رواية عن السفر في القرن الحادي والعشرين والتشريح البشري من خلال الوقوف عند التخوم الفاصلة بين الحياة والموت والحركة والهجرة.
وللأسف فإنَّ الأثر السرديّ الوحيد لتوكارتشوك المترجم إلى العربيّة هو روايتها «رحلات»، في حين لا تزال رواياتها السبع الأخرى، وأبرزها «كتب يعقوب» مغيّبة عن الترجمة العربيّة رغم قيمتها الإبداعيّة الكبرى، ورغم إبداع توكارتشوك السرديّ، وهو الإبداع الذي جعل نتاجها يُقارن بأعمال روائيين مبدعين آخرين ينتمون إلى أوروبا الشرقيّة مثل ميلان كونديرا وسفيتلاتا ألكسييفتش وغيرهما.
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيَّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك