عند قراءتي للمجموعة القصصية تساءلت عن عناصر الجمال في القصص رغم أن الكاتب كما استشف لي من النصوص كان قد أدار ظهره لتقنيات الكتابة وأدواتها، وتركها تأتي وحدها بصورة عفوية.
ولعلّ سرّ جمال هذه القصص هي موهبة (الحكي) التي يتميز بها الكاتب.
لن تجد هذه القصص مرسومة كالدائرة المغلقة التي تنتهي بقفلة، ولا كالدائرة المفتوحة، بل ستجدها كالخط، الذي يستقيم أحيانًا ويتلوى أحيانًا أخرى، أما النهاية فهي المكان الذي تقرر فيه القصة ذاتها أن تتوقف فيه. وخلال هذا الخط سيتحرك الكاتب مقدمًا ومؤخرًا في الأحداث، فلا يعود الخط ذا شكل محدد.
يمكن تشبيه قصص المجموعة بالسيارة (اللعبة) التي تعمل بنظام السحب للخلف (Pull Back)، والتي تُسحب للخلف يدويًا ثم تتحرك من تلقاء نفسها، وتتوقف في أي مكان، في اللحظة التي تستنفد ما عندها.
القصص بمجملها تتحدث عن القرية، التي لم يسمها، لكنها قد تكون قرية الكاتب، الدير، كونها قرية ساحلية، ولد فيها الكاتب وعاش فيها كل قصصه.
هنا القرية تفعل فعلها في الإنسان، تؤثر فيه، وتتأثر به.
هي قرية ساحلية، اعتمد أهلها (في الماضي القريب) على صيد الأسماك والزراعة، ولكن بعد افتتاح المطار بالقرب منهم، اشتغل عدد من أهلها في وظائف أخرى مختلفة، وبعد انتشار التعليم تعددت الوظائف إلى ما لا حصر له، ونشأت طبقات اجتماعية جديدة، ودخلت العمالة الآسيوية والأجانب للاستثمار، في مكان ظن أهله أنه جنتهم الخاصة.
ستجد القصص ترسم ملامح هذه القرية، المادية والاجتماعية، على سبيل المثال:
1- الوصف المادي للقرية
(الشوارع التي تتحول إلى برك) عند نزول الأمطار.
وصف بيوت القرية، بيضاء اللون، ذات الطابق الواحد، وذات المساحة الترابية التي تحتل نصف مساحة البيت، والمساحة الواسعة غير المسقفة، والغرف ضعيفة الإنارة، والمجلس الذي يجتمع فيه رجال الحي، أو الدكان الذي يشغل الغرفة المطلة على الشارع، الذي تبيع فيه امرأة كبيرة في السن «متجر الحاجة زهرة، المليء بأكياس المينو وآيس كريم الحليب المصبوب في كؤوس من النحاس».
2- الوصف الاجتماعي للقرية
تكرار كلمة (الناس)، مثل أن يهرع الناس لنجدة الآسيوي، تدل على أن المجتمع يعيش بشكل جماعي ولا تغلب عليه الفردانية.
مثال آخر: الزوجة التي تجد نفسها (غريبة على أهل البلد) وتكون (مكروهة من: أهل ضرتها، أهل زوجها، جاراتها) هذه الجماعية في الكره وكأن المجتمع كله يتناقل ذات الاعتقاد بأنها امرأة سيئة.
ستجد أن كبار السن حاضرون بقوة في مجمل القصص، ولعل ذلك من سمات القرية، حيث يكون الرجل أو المرأة الكهلين مصدرًا للحكايات الغرائبية والتجارب الطويلة، والحكمة أحيانًا، والرعونة في أحيان أخرى.
كبار السن لم يوظفهم الكاتب كشخصيات فحسب، وإنما استفاد منهم في تمثيلاته: «طرق الباب بهدوء يناسب بيت أرملة مسنة»، بهذا الوصف واللغة الجميلة أمكنني التعرف على هيئة الطَرق وطريقته ومدى صوت الطرق، بالإضافة إلى أنه عزز حضور المسنين في النص.
النظر إلى الأبناء على أنهم سند الوالدين، وتعداد (صفات سيدة البيت الحقيقية) التي تسهر على راحة زوجها وأبنائها، والرغبة في إنجاب الولد والتشاؤم من كثرة إنجاب البنات، الأب العنيف وسيء الخلق مع أهله.. كلها ملامح اجتماعية لساحة القصص.
كذلك الأسماء ذات الطابع المحلي (عبدالجليل، عبدالمنعم..).
من الأفكار المتكررة في القصص
حضور (الموت) في القصص حضورا طاغيا، فأغلب القصص فيها حالة موت، أو دفن، وحتى الخيال في القصص ستجد أن أغلبه على هيئة حديث الميت إلى ذويه. هذا الحضور يعكس النظرة المتأملة في الحياة للكاتب، وانشغاله بالمصير وبذلك العالم الآتي.
(البحر) له حضور كبير في النصوص، فهو مصدر الرزق، وهو المرعب الذي يختطف الرجال والأطفال، وهو مكان التأمل والاسترخاء وهو مستودع الأسرار والهموم.
الأسرة والأبناء والعلاقة بين الأزواج والزوجات، البر بالوالدين والعقوق، تأثير الوراثة، وفكرة أن الأب يُلقي كل ما يراه سيئًا في أولاده على الوراثة من الأخوال، ستجد الابن الذي يتمنى موت أبيه، والزوج الذي يتمنى التخلص من زوجته، والعكس، والكثير من الشتائم والسباب بين الأهل والجيران، والعنف الأسري، الزيجات التعيسة، والعلاقات المتوترة بين الزوجات المتعددات، كل ذلك يكشف عن شخصيات سريعة التأثر، سريعة الفرح، سريعة الغضب، كالبحر الذي يتقلب بين مدّ وجزر.
القصص مليئة بالقضايا الاجتماعية، مثل البطالة وعدم نفع الشهادات الدراسية، الفقر.
بخصوص الفقر، ستجد أن الولد الذي يمر في الشارع بثياب نظيفة ويحمل في يديه كتبًا هو حالة لافتة للنظر تجذب إليه أنظار الحسد والاستغراب!
ستجد عدم الترحيب بالغرباء.
ستجد العلاقة المعقدة بالقرية، ففي حين يراها الراوي (القرية الظالم أهلها)، إلا أنه يهواها ولا يستطيع مفارقتها.
هذه المجموعة القصصية، تسارع إلى تسجيل حالات إنسانية عميقة، حصلت في الماضي القريب، قبل أن يلفها النسيان، ويبتلعها البحر.
هنيئًا لقرية أو مدينة يوجد فيها كاتب يحمل قلمًا جميلًا يخلد لحظات الآمال والآلام والطموحات التي تناثرت بين طرقاتها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك