لعل استعادة الذاكرة بكل تفاصيلها أمر ملهم في كثير من الكتابات الأدبية خاصة في الرواية العالمية، باعتبارها أهم روافد الكتابة الروائية، حيثُ إنّها تُسهم في فتح منافذ إلى التّخييل والعبور نحو استقصاء وسبر التّجربة وعوالم الكتابة واستكناه أسرارها التّعبيريّة والجماليّة، وتعد رواية البحث عن الوقت الضائع، للكاتب مارسيل بروست العمل الرئيسي للرواية الفرنسية في أوائل القرن العشرين، والتي تُرجمت أيضًا إلى اللغة الإنجليزية، الرواية تحكي تناقضات كبيرة في قصة حياة بروست الخاصة، وتُروى باعتبارها البحث المجازي عن الحقيقة، محاولاً من خلالها الاسترجاع غير الطوعي لذاكرة الطفولة خلال سنوات الحرب، حيث جعل بروست روايته واحدة من أعظم إنجازات الخيال البشري.
يتسع عالم مارسيل في روايته ليشمل كل من المثقفين والفاسدين، وهو يرى النطاق الكامل للحماقة والبؤس البشري في أدنى درجاته، حيث يشعر أن الوقت ضاع وتلاشى الجمال والمعنى من كل ما سعى إليه وفاز به.
ومن خلال سلسلة من حوادث الذاكرة اللاواعية، أدرك بروست أن كل الجمال الذي اختبره في الماضي لا يزال حيًا إلى الأبد، لذلك حاول استعادة الوقت، متسابقًا مع الموت، من خلال بحثه عن الوقت الضائع، اذ لم يخترع شيئًا سوى تغيير كل شيء، واختيار الحقائق ودمجها ونقلها حتى يتم الكشف عن وحدتها الأساسية وأهميتها العالمية.
البحث عن الوقت الضائع عبارة عن تجميع لسبعة مجلدات من مذكرات مارسيل بروست الشخصية وأربعة آلاف صفحة ومليون ونصف مليون كلمة وأكثر من ألفي شخصية... وفي السؤال عن سرّ شعبية رواية ضخمة ومعقدة إلى هذا الحد، نجد أنّ الأجوبة تتعدّد وتتشعّب لتلتقي أخيراً عند أسلوب بروست الروائي.
إذ استهلك بروست نفسه، وكافح طوال كتاباته لإرضاء توقعاته الخاصة بالكمال، إذ نجح في التعبير عن ذكريات طفولته ، لكنه لا يستطيع أبدًا توصيل الجوهر الخالص للذاكرة تمامًا، لأنّ القيمة التي يمكن أن ينقلها كاتب ما إلى قارئه تكمن بالنسبة إلى بروست في قدرته على كشف عالم إضافي أمام الآخرين، وهذا ما فعله بروست في رائعته «في البحث عن الزمن الضائع» عندما بيّن للقرّاء أنّ الذكريات يمكن أن تغدو هي الحياة، وإن كان من دلالة نستقيها من هنا، فإن ذلك يعني، أن معالجة موضوع الذّاكرة ينطلق من منظورات مختلفة ومغايرة، ترتكز على البحث عن الهويّة المفقودة عبر مساءلة الذاكرة وسواء تعلّق الأمر بالذاكرة الفردية أو الجماعيّة، فإن ذلك يعني الإقامة في الذّاكرة وسبر أغوارها وأسرارها.
وكمذكرات مركبة، ثمة وحدة ضمنية في السرد تلتزم بنظام الوقت الذي يهتم به بروست، من خلال إسهابه في التفكير في حتمية الزمن باعتباره العامل الفاصل بينه وبين الأشخاص من حوله، كما لو كان يشبعه بالقوى السحرية، فإن اعتراف بروست بالزمانية يسمح له بتجاوز العلاقات المهذبة العادية مع المحيطين به، بالرغم من خضوعه للأهواء والأوهام التي تحتوي قصته على الكثير، منتبهاً بذكاء إلى انفلات الزمن من بين يديه، وبدلاً من أن يترك للزمن فرصة أن يتتبعه، ارتأى أن ينقضّ هو على الزمن لعلّه يُغيّر مساره المنضبط والصارم.
وأمام كلّ هذه التحولات، طرح بروست، الرجل ذو الحساسية المفرطة، العديد من الأمثلة المماثلة للذاكرة اللاإرادية في الرواية، التي أثارتها التجارب الحسية مثل المشاهد والأصوات والروائح باستحضار ذكريات مهمة في حياته على الرغم من أنه كتب بالتزامن مع سيغموند فرويد، مع وجود العديد من نقاط التشابه بين فكرهم حول هياكل وآليات العقل البشري.
وبالتالي فإن رهان الذاكرة على الكتابة هو رهان على التّخييل في بناء المعنى وتشكيل المتخيّل والهوية الفردية والجماعية، هذا الرّهان الأفقي في استقراء الذاكرة وكشف أسرارها وخزائنها يلعب دورا في بلورة الوعي بالكتابة، خصوصًا أن الرواية راهنًا، أضحت لسان جزء من الذاكرة الإبداعية وانعكاسًا للحياة والعالم والفرد والأشياء. وعليه، فإن هذا البحث عن الوقت الضائع، يُشكّلُ قيمة نوعية في الأدب العالمي، ليس في تناوله لموضوع الذاكرة فحسب، وإنما في قدرته على النهوض بالمفاهيم الإجرائية ومحاولة تنسيبها فيما هو تطبيقي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك