مع أمين صالح ينحدر البوح وينشغلُ القلب بحكاية لا تموت!
(عذرا فأنت أكبر من هذا البوح، وعذراً يا أمين أن الذي تطفل وكتب نبض ما ينبض به القلب مدرك أنك في الحكاية أكسجين الحياة)
في منتهى سرُّ الحكايات ..
يبدأ ظل الطيف العالق بمشجب الأيام، يدنو من حيثُ لا يبدأ الحزن، ولا تنشغلُ الطفيليات بشهواتها..
هو هكذا.. يفتلُ حبل الليل من سرته الأولى ومن مفاصل تكتظُ بوجعها، دون ان تسمع الآخرين بكاءها.
كنتُ قريبا منه، اراقبه بفضول، غير آبه بأصوات الآخرين، قبل زمن الجزر التي غادرت مواقعها وانشغلت بطوفان قواقع المحيطات، وقبل أن تكون لنا بالكتابة موطئ قدم.
ظل وحيداً فوق جمر الكتابة، ولم يغادر أحبته، بل كانت الوحدة بالنسبة له انشغالا لا ينفك عن غفلانه.
يطلُ احياناً من شق النافذة لينظر المارة وهم في مواقع طاحونة الحياة يذوبون في العمل اليومي بحثاً عن زوادة العيش، في زمن يركض بكل شيء من دون رحمة لنظرة طفل على قارعة الطريق يبكي.!
تقدم بثقة لينظر بعينين غائرتين متعبتين للمدينة التي كان يظنها حلمه الأول، وكان يظن ساكنيها اخوته.
مر الزمان وإذا هذه المدينة تقف كالجاثوم الضاغط على صدره، تترك لوحدته فيروساتها البغيضة فتنهش من لحمه ببطء!
الجدار الذي كان يوما ما علامة بارزة للزائرين، أصبح اليوم ضائع الملامح، غريب الطباع، له هواية هجينة، يأكل في لحم ضحيته، يفتك بمن يقترب منه.
وعن عادته التي ألف الآخرون عليها، فاختلف معهم، وسار على غير الجادة التي يريدون، تاركاً صوته القوي يشق البرية الواسعة بعد ان يخلع قميصه المهترئ ويرتدي قميصا ناعم الملمس جميل المنظر، يخطف بعينيه الحادتين كل ما هو جميل، لم تكن خياطة امواج البحر مهنته ولم تكن علاقته بازرق الماء الا لعبة كان يخبئ في احشائها صور الأيام التي قضى فيها يخيط بقايا فتق من بنطاله العتيق.
سنوات عمره الخامسة الداخلة في طوايا الأزمنة الحديدية، تنصتُ لأحاديثه وهو مدرك انه في الحريق يعرف قسوة الجمر وبين الرماد يظل يعزف فوق اوتار قلبه لحنا لم يكتمل ولم تكن خطواته ثابتة في طوايا الأيام، أو متخلفة عن لعبتها الأولى قبل قطع سرته والرضاعة بحبر لا تجف أحرفه ولا تشوهه ذاكرة ساخطة.
الزمن أثقل رجليه لكنه لم يستطع ان يمنع هذه الارجل من المسير الطويل، وتعويدها على وخزات الشوك.
توكز ازميله، تاركاً لرجليه خوض ما لم تعلمه الحياة، وما لم يدركه عقله قبل سنوات الرجولة.
وكلما تقدمت خطواته نحو البحر أوجس بشيء من الخوف وبشيء كان يعرفه منذ كان طفلا، انها اللعبة الصعبة والألم الذي لا ينتهي بانتهاء الوجع.
سنوات طفولته، كان له سحر هواه، وذاكرته التي كبرت قبل أن تدرك رجولته أول صرخة أطلقها عندما ولدته امه.
رفاقه كانوا يتحلقون حوله، يتركون له اختيار شباكه التي يحب ان يصطاد بها، لأنهم واثقون منه، إنه لن يخذلهم، ولن يغادر البحر من دون ان يصطاد لهم ما يحبون، فالطرائد تعرف لعبته ولا تستوحش من لعبته الساحرة.
محبرة الكتابة كانت هوايته، وكان حينما يمارسها تبرق عيناه ويزداد قوة، فالبحر بالنسبة له الحكاية التي ظلت معه يسردها بحب لكل من يرغب سماعها.
لم يكن منشغلا بشيء أكثر مما هو منشغل بحكاية الكتابة والرسم على رمال البحر، قبل أن تأتي امواج تمحو ما دونه فوق هذه الرمال.
بعيداً عن البكاء، قريباً من الابتسامة، تقرفص فوق فراشه وعزف آخر وأجمل ألحانه مدون نوتة فوق دفتر سلم الموسيقى، لأن ترجمان الحياة هو الطفل المدلل لديه، لغة لها مرافئ تقف على شواطئها نوارس الحياة، فيترك الليل لظلمته ويلحق القمر عندما يشتعل الضوء في الفيافي البعيدة مردداً: «أمامي نافذة مستطيلة، هائلة الحجم، تطل على مدى رحب وأفق شاسع، حيث العوالم المختلفة والمتنوعة، الغنية بالشخوص والأحداث، المحكومة بالصور الآسرة، بالحركة والتتابع.. عوالم سحرية كنا ندخلها – نحن الصغار – بغبطة من يدخل حلماً جميلاً لا يتمنى أن يغادره».
ففي قلبه كان هواه وطنا لا يراه صغيراً فوق خرائط الجغرافيا، بل يراه كبيراً فوق مآذن لا تصمت لحظة انشغاله بالحرف.
ترك لذاكرته ان تعيد طفولتها ليستطيع ان يتذكر انه الماء الزلال والهواء الذي يتنفسه وعلى شرفة عالية يترك لصوته الغناء.
a.astrawi@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك