الرواية التي أميل إليها هي تلك التي تطرح نصاً مفتوحاً... وتخرج عن المألوف والتقليدي، توظف الطاقة الشعرية الكامنة في السرد
مع الروائي والكاتب السيناريست أمين صالح، تكون الحكاية أكبر من أن يضمها كتاب، كون رسائل أمين لا تقف عند حدود شواطئ البحار، بل تتعداها لتكسر كل موانع الحب، فهو الحب كله مجتمعاً في مفاصل أدبياته وانشغالاته الثقافية، معه نقرأ سيرة هذا الحب:
حاوره: ناجي جمعة
{ - ما هو تعريف الرواية الأدبية من وجهة نظرك؟
- ليس لدي تعريف خاص بالرواية، ولا أفهم سر الولع بالتعريفات التي لا أعتقد أنها ضرورية، نظراً لطبيعة التحولات التي تطرأ على المصطلحات مع مرور الوقت، ومع تعرّضها للشذب والتنقيح والإضافة والتغيير، وأحياناً للشك والنقض.
الكثيرون يرون أن الرواية هي الكتابة التي تبلورت وسادت وأرست تقاليدها وقواعدها في القرن التاسع عشر، والتي تشمل القص والسرد والحبكة والشخصيات المتنوعة والأحداث المتعددة. ويرون أن كل كتابة روائية ينبغي أن تسلك المسار ذاته، وتتّبع التقاليد والخاصيات ذاتها، على الرغم من تغيّر الظروف، وتباين المجتمعات، واختلاف البنى الاجتماعية والسياسية، وتنوّع المفاهيم، وتجدّد الأشكال الفنية وفق منظور حداثي، وما اعترى الرواية نفسها من تجديد وتحديث واستجواب لمختلف عناصرها من الشخوص إلى الأحداث إلى اللغة إلى التقنية إلى الحجم.
لم تعد الرواية خاضعة لاتجاه أحادي ووحيد، حتى لو هيمن طويلاً ومازال سائداً، ولم تعد تسرد الحكايات الطويلة فقط، ولم تعد تلتزم بتقنية معينة ثابتة. الرواية التي أميل إليها هي تلك التي تطرح نصاً مفتوحاً ومنفتحاً على مختلف الأشكال والطرائق والعوالم، والتي تخرج عن المألوف والتقليدي، وتوظف الطاقة الشعرية الكامنة في السرد، وتعتمد في بنائها على منطق الحلم، ويكون للمخيلة الدور الأبرز، من دون إغفال البعد الواقعي الذي تتأسس عليه كل العوالم.
{ - هل أنت مع تداخل الأجناس الأدبية في المنجز الروائي؟
-يمكن للرواية أن تصل إلى طريق مسدود إذا انغلقت على نفسها، ولم تنفتح على الأشكال والأنواع الأدبية والفنية الأخرى.. ذلك لأنها سوف تضطر إلى تكرار نفسها، واجترار أشكالها وأساليبها وتقنياتها إلى حد الابتذال، حتى تفقد قيمتها ومبرّر وجودها واستمراريتها. لذلك، لكي تتجدّد الرواية وتنتعش وتتطور، وتكون حيّة دائماً، يتعيّن عليها أن تتفاعل مع الأشكال والأجناس الأخرى.. عليها أن تأخذ من المسرح والسينما والتشكيل، وأن تطلق سراح الطاقة الشعرية الكامنة في السرد.
{ - هل ترى أن الكتابة باللغة الشاعرية وإدخال بعض نصوص قصيدة النثر يسهم في تقوية النص السردي المنجز؟
- أشرت إلى أن الطاقة الشعرية كامنة في أساس أو جوهر كل كتابة سردية، كما في جوهر كل لوحة تشكيلية وصورة سينمائية ومنحوتة ومقطوعة موسيقية. هي ليست دخيلة أو طارئة. ثمة من يدرك وجودها ويتعامل معها بوعي، ويحسن توظيفها، وكاتب آخر لا يشعر بضرورتها، مكتفياً باللغة التقريرية المباشرة، ومطمئناً لها.
إذن الشعر لا يتطفّل على النص، ولا يقتحمه، بل هو موجود عضوياً بداخله. ومسألة استخدامه أو عدمه تعود إلى الكاتب، وإلى مدى حساسيته ووعيه ورؤيته، لكنني لا أفهم كيف يمكن للكاتب أن «يُدخل بعض نصوص قصيدة النثر في الرواية»، سيبدو الأمر أشبه بالكولاج، واعتقد أنها، في هذه الحالة، ستكون مقحمة ومفتعلة.
{ - يرى بعض المهتمين بالكتابة السردية أن الكاتب الروائي يجب أن يكون له منجز قصصي سابق قبل الشروع في كتابة الرواية؟ فهل تؤيد رأيهم؟
-ليس هناك قاعدة أو قانون أو معيار، يتصل بهذا الموضوع. قد توجد افتراضات ومقترحات ونصائح، لكن لا شيء يقيني. يمكن للمرء أن يبدأ بكتابة رواية من دون خوض تجربة الكتابة القصصية، طالما أن الموهبة متوافرة، مع امتلاك تجربة حياتية وثقافية ثرية وعميقة.
عادةً، وبشكل عام، يبدأ الكاتب بكتابة القصة، أو ربما الخاطرة ثم القصة، وبعد أن يتمكّن من أدواته ويشحذ عناصره ومصادره، يباشر في كتابة الرواية، لكن هذا ليس شرطاً عاماً.
المعيار الحقيقي هو جودة العمل ومدى عمقه وجماله. عدا ذلك فهو أمر ثانوي، ولا أهمية له.
{ - لأيهما تعطي الأولوية في المنجز السردي، البعد الثقافي أم البعد الأدبي، أثناء التأليف وما بعده؟
- أخشى أنني لم أستطع فهم هذا السؤال جيداً.
البعد الأدبي متضمن في البعد الثقافي، ولا يتميّز عنه أو يختلف عنه حتى نفاضل بينهما ونعطي الأولوية لأحدهما.
{ - ما رأيك في طغيان الأيديولوجيا في الأعمال السردية؟
الأيديولوجيا، في معناها العام، بوصفها مجموعة نظامية من المفاهيم والأفكار والتصورات والعقائد والقيم، وبوصفها طرائق تفكير في شؤون الحياة والثقافة، هي مسألة تتصل بكل فرد، وتنعكس في أشكال الفن والأدب من خلال المضامين التي يطرحها العمل أو النص. لكل كاتب موقفه الخاص، ورؤيته الخاصة للواقع، والتي تنعكس بالضرورة في نصه.
لكن الإشكالية تكمن في ذاك الأيديولوجي الذي يشايع نظاماً أو معتقداً إلى حد التعصب، ومن ثم يحاول فرض رؤيته وأفكاره ومعتقداته على الآخرين عنوةً وقسراً. هذا ما أرادت «الواقعية الاشتراكية» – على سبيل المثال – أن تفعله في الوسط الأدبي، في الستينيات والسبعينيات. وهو مفهوم أو اتجاه عقيم يمجّد الطبقة العاملة ويدافع عنها، ويدعو إلى إقامة مجتمع تذوب فيه الفوارق الطبقية، وفي المقابل، يسعى إلى كبح أي توجّه “شكلاني” لا يكرّس نفسه للثورة والالتزام بتطلعات الجماهير. هذا الاتجاه أرادت الأحزاب الشيوعية فرضه بالقوة، في مجال الفن والأدب، لكنها لم تنجح في ذلك، لأنها ببساطة كانت تصادر حرية الفنان أو الأديب في إبداع ما يراه وما يحسّه وما يؤمن به.
إن إخضاع الأدب للأيديولوجيا، بالمعنى السلبي المضاد لحرية الكاتب، لا ينتج إلا خطاباً دعائياً فجًّا، يروّج لأفكارٍ وتوجهات سياسية، دونما اكتراث بالعناصر الفنية والخاصيات الجمالية.
ينبغي على النص أن يتخطى الأيديولوجي ليصل إلى فضاء إنساني كوني، أكثر حرية ومرونة.
{ - ما سبب ميلك للرمزية واللغة الاستعارية الكثيفة في المنجز السردي؟
- في بداياتنا كنا نتعامل مع الرموز بسذاجة وضحالة فكرية، معتقدين أن بإمكاننا مراوغة السلطة السياسية وجهازها الرقابي باستخدام الوردة الحمراء – مثلاً – كرمز للثورة، والشمس كرمز للحرية، وهكذا. عندما نمت الحركة الأدبية ونضجت، خرجنا من تلك الدائرة المغلقة، لننطلق إلى فضاء أرحب وآفاق أوسع من التعبير.
إذا وجدتَ في نصوصي ابتعاداً عن التقريرية والمباشرة، وتوكيداً على المجاز والرمز والصور البلاغية، فذلك لأنني أحاول إثراء الصورة الأدبية، وتوسيع دلالتها، وتعميق أبعادها الفنية والجمالية، بغية تحريك ذهنية القارئ وتحفيزه على المشاركة الفعالة.
{ - لوحظ إعطاؤك عنصر الوصف أهمية بارزة في تحويل الملفوظات المكتوبة لمشهد مرئي ومسموع في إبداعك السردي، فكيف تفسر ذلك؟
- الوصف وسيلة من وسائل التعبير، وهي موظفة – في نصوصي – لغاية جمالية، وليس فقط لنقل معلومة أو لوصف ظاهر الأشياء بموضوعية.
الكاتب، من أجل إغناء الصورة الفنية، وضمان قدرتها على إحداث التفاعل والتأثير، من حقه أن يلجأ إلى استخدام كل وسائل التعبير والبلاغة المتاحة.
{ - يرى بعض النقاد أن أمين صالح لا يهتم بالحدث والحبكة الفنية بقدر اهتمامه بالزخرفة اللغوية في منجزه السردي، فإلام تعزو ذلك؟
- أنا اعتني باللغة، وأشحذها وأصقلها وألهو معها وأتلاعب بها واستثمر طاقاتها، لأنها أداتي التي بها أعبّر عن ذاتي وعن واقعي، تماماً مثلما يفعل الموسيقي مع آلته، والرسام مع ألوانه، والممثل مع جسده. من دون فعل هذا، سوف تكون لغتي جافة، خاملة، مبتذلة، لا روح فيها، وحتماً سوف يعلوها الصدأ.
إنهم يسمّون ذلك زخرفةً، أنا أسمّيه بلاغة اللغة.. البلاغة التي هي، في جوهرها، احتفاء باللغة.
ومن يقول أنَّني لا أهتم بالحدث، لا يقرأ نصوصي جيداً، أو أنه يرى إلى الحدث باعتباره دراماتيكياً أو ميلودرامياً فقط، أي ضاجاً ومبالغاً فيه. عندما يلتقي رجل وامرأة في مقهى، ولا يدور بينهما حوار، ولا يحدث بينهما شيء، فهذا – في حد ذاته – حدث.. حدث مشحون بالتوتر والانفعالات الداخلية.
إن نصوصي مليئة بالأحداث، فكيف لا أهتم بها.
{ - هل ترى أن الرواية البحرينية الحديثة امتداد للرواية البحرينية في الجيل القديم؟
- لا يوجد هناك فارق زمني واسع بين الرواية في بداياتها، في البحرين، والرواية الراهنة، بحيث يسمح لنا بالحديث عن اختلافات وتماثلات وتمايزات وتأثيرات وخصائص مشتركة. المسافة زمنياً قصيرة، وعدد من الذين كانوا يكتبون آنذاك لا يزالون ينتجون في الوقت الحاضر.
إن ما هو مؤكد أن الرواية البحرينية، سابقاً وراهناً، هي امتداد للرواية العربية بشكل عام، مع تأثر جلي بالرواية الأجنبية، كما نلاحظها الآن مع جيل الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
{ - كيف تنظر إلى مستقبل السرد في البحرين؟
- لست رائياً ولا قارئاً للمستقبل لكي أتنبأ بما سيكون عليه السرد غداً، لكن من خلال اطّلاعي على عدد من الكتابات السردية عندنا، أستطيع القول بأن لدينا مواهب حقيقية وجادة، وسيكون لها حضوراً لافتاً في ساحتنا الثقافية.
{ - هل يحاول أمين صالح أن يشكّل مدرسة لها خصائصها الفنية في إنتاجه السردي؟
- مدرسة؟! أنا؟! لا، على الإطلاق.
مازلت أتعلم. أنهل من هذا ومن ذاك. استعير من هذا ومن ذاك. وأجرّب أدواتي ووسائلي من دون أن أصل إلى مكان ما، واستقر في مكان ما. الرحلة لم تنته. بيني وبين المحطة التالية مسافة طويلة ومساحة شاسعة، وكل ما أرجوه أن تكون خطواتي ثابتة، لا رعشة فيها، وأن تكون جديرة بالطريق الذي سلكته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك