الساحةُ الثقافيَّة البحرينيَّة سماءٌ مُزدهرةٌ بالنجوم التي تُضيء على أرض الواقع الثقافي البحريني، ويمتد ضوء بعضها إلى مساحاتٍ أكثر اتساعًا ليُنير بصائر التواقين للارتقاء بزادهم الروحي والمعرِفي في العالم العربي مُتجاوزًا حدود الوطن. أحيانًا تقودنا المُصادفات إلى سماعِ صوتٍ بحريني مُثقف عبر وسيلةٍ إعلاميَّة غير بحرينية، فتمتلئ نفوسنا بالزهو والفخر والاعتزاز أمام اكتشاف العالم بعض اللآلئ الثمينة المخبوءة في بحار حضارة دِلمون التي لا تغيب شمسها، ومن بين تلك الأصوات البحرينية صوت الباحث التاريخي والفنان التشكيلي البحريني/ محمود البقلاوة، الذي أطلَّ على مسامِعنا عبر أثير إذاعة «صوت العرب» من القاهِرة في برنامج «نقوش على جِدار الوطن» من تقديم الإعلامية المصرية الدكتورة/ منال العارِف.
كان الحوارُ راقيًا مؤكدًا مدى عُمق ثقافة الباحِث ووعيه بأدق تفاصيل المعلومات التي يُفصحُ عنها، كل معلومةٍ كانت دليلاً مُبهِرًا على أن أرض الخليج كانت موطن حضارةٍ عظيمةٍ سبقت الميلاد بألفين وخمسمائة عام، حضارةٌ لم تكُن مُنجزاتها الثقافية والفنية بمنأى عن منجزات حضارة أرض وادي الرافدين ووادي النيل في تلك المرحلة الزمنية، فـ«الأختام الدِلمونية» تُبرز ثقافة سُكان البحرين القُدماء بما حملتهُ من نقوش ورموز تبوح بخصوصية بيئتهم وطبيعتها المُجتمعية والتجارية والعِبادية على مدى ألفي عام قبل توقفها في عهد «تايلوس»، و«قيثارة دِلمون الوتريَّة» التي اكتشفت بقاياها البعثة الدنماركية في معبد مُجمَّع باربار خلال التنقيبات التي تمت بين عامي 1952م - 1961م دلالة على هويَّة الحضارة الدلمونية كما كانت قيثارات وادي الرافدين وقيثارات الفراعنة، وهي إشارة إلى اهتمام المُجتمع البحريني في ذاك الزمن بالفنون الإبداعيَّة التي منها فن الموسيقى، ومن المثير للاهتمام أن هذا الفنان التشكيلي جمع بين معلوماته البحثيَّة المُشتقَّة من رسوم ونقوش الأختام الدلمونية والكتابات المسمارية وبين موهبته ومهارته في الفن التشكيلي ليُصمم رسمًا هندسيًا للقيثارة الدلمونية، ثم يبذل جُهده لصُنعها من موادها الأولية المُستخدمة في ذاك العصر، لتكون الأوتار من امعاء الماعِز، وجسم القيثارة من لحاء الشجر، فيتجلَّى شكل تلك القيثارة بنموذجٍ مُجسمٍ على أرض الواقع كما كانت عليه قبل اندثارها في الماضي، كما حرِصَ على أن يكون عدد من لوحاته الفنية التشكيلية انعكاسًا لما عرفه من تفاصيل الحياة المُجتمعية في عهد دِلمون لتعريف الجمهور بها خلال معارضِه الفنيَّة.
من المُلفِت للاهتمام في هذه الشخصية الثقافية البحرينية سعي صاحبها للتنقيب عن المعرفة بكل وسيلةٍ ممكنة مهما كلَّفه ذلك من وقتٍ وجُهدٍ ومال دون مردودٍ مادي متوقع! إذ انتسب لـ «جامعة بيروت العربية» لينال درجة البكالوريوس في التاريخ، ثم «جامعة القديس يوسف» ليكون نصيبه منها دبلوم دراساتٍ عُليا في التاريخ، دافعُهُ من كل تلك الجهود الولع بعلم التاريخ والآثار رغم كون تخصصاته العلمية بعيدة عن مساراته المِهنية، وهي من الظواهر التي يندر مُصادفتها في عالمنا العربي، حيث لا يدرس أكثر الناس شيئًا إلا إذا كانت الغاية النهائية الحصول على نقود! إن هذا النوع من المُثقفين الشغوفين بخياراتهم الثقافية هم صَمَّام الأمان الحقيقي للحياة الثقافية في أي بلد، لأن دوافعهم الحقيقية نابعةً من أعماقهم لا من مؤثراتٍ خارجية يتداعى الدافع ويتوقف العمل بزوالها، لذا يستحقون الاهتمام والتقدير والتشجيع على ما يُقدمونه من جهودٍ ومُنجزاتٍ.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك