بقلم: عاطف الصبيحي
انتهينا في المقال السابق إلى الإقرار بجهود الفقهاء الذين مضوا، تاركين وراءهم فقها استنزف حياتهم ليواكبوا كل جديد، ويستلوا من منبع الإسلام -القرآن الكريم- ما يواجهون به نوازل عصرهم، لتنتظم الحياة على هدي الشريعة، فكانوا ربانيين، مجتهدين، علماء، ورحلوا رضوان الله عليهم جميعاً، وبرحليهم كتبنا على أنفسنا الجمود والموت الفقهي، وذلك بقتل الاجتهاد، والاكتفاء بما قدمه الأوائل، فسكنّا وسكن ديننا، وتقوقعت شريعتنا على ما قاله هؤلاء الفقهاء.
وبدأ عصر التكرار الممجوج، بحفظ مقولات وآراء هؤلاء الأفذاذ، وتكرارها على مسامع الناس في كل مناسبة، بدءاً من خطبة الجمعة، وانتهاءً ببرامج الفتوى على الفضائيات التي أصبحت عنصر طرد لا عنصر جذب، فلا جواب يدل على فقه واجتهاد، ولا يدل على فقه للواقع، وبدأ الأموات يرسمون لنا مسار الحياة، وأصبحنا في عجز لا ينكره كل ذي لُب، والعجز هذا تمظهر بعدم قدرتنا على إنشاء متن على متن.
نحن نعيش أزمة نوعية خطيرة، فالعقل الذي لا يزال يتكئ على القرن الثاني الهجري، على عقلية الشافعي رضي الله عنه، الذي واجه عصره وأدى ما عليه، حيث إنه استوعب الشروط التاريخية لعصره وقال كلمته ومضى إلى ربه مرحوماً بإذن الله تعالى، كما يقول الدكتور الحاج اوحمنة دواق.
صالح المغامسي الشيخ السعودي والداعية الإسلامي لم ترتح نفسه لهذا الوضع، وخرج أخيراً على الملأ ليعلن بصدق وأمانة -حسب ما أرى- أننا بحاجة ماسة إلى فقه جديد نابع من واقعنا المعاصر، ويواجه بصرامة وعلمية ما استجد بحياتنا من نوازل، وكأنه يقول إن العقل الذي مازال يستنجد بالأموات لم يعد له تأثير، وانفضاض الناس من حوله علامة خطر كبير من حدوث فوضى فقهية، وضبابية أحكام وعشوائية فتاوى.
المغامسي قرع الجرس، ومما يؤلم بالموضوع أن الشيخ المغامسي يُقر بوجع بأنه ما إن يختلف مع أقرانه من العلماء في أي مسألة فرعية ثانوية، تُفتح عليه النيران من مختلف الأسلحة، وكأن الخُلق القرآني والهدي النبوي لم يُسمع به من قبل البتة، لا أدري أي ثابت من الثوابت نفاه الشيخ المغامسي؟ ولا أدري أي جُرم ارتكبه الشيخ حين أراد الاجتهاد؟ وعدم التعيش على فكر القرن الثاني الهجري!!.
العقل الذي عارض وهاجم الشيخ المغامسي هو عقل مستقيل بالمعنى الحرفي للكلمة، فهو عقل عالة على عقل مات منذ القرن الثاني الهجري، وهو عقل عاجز حقاً، ويعتاش على أثر إنسان مات منذ قرون، واستكان على الإسراف في سرد قول السابقين، ولا طاقة له على توليد نص من نص، وإن لم يكن الفكر الاجتهادي فكرا توليديا فماذا يكون؟!!
على الإطلاق لا يُقصد من هذا القول الانتقاص من حق السابقين، ومن نحن حتى نبخسهم حقهم، ولا ننزلهم منزلتهم التي يستحقونها، وهم بها جديرون، لكن ألا تستفزنا تلك الكلالة على المنتج السابق، وهو منتج فكري كما قلنا مراع لشروطهم التاريخية التي عاشوها، وبعد مُضي تلك السنين العجاف بعدهم ألا نمتلك الجرأة لنسأل أين العقل الإسلامي المُجتهد بعد هؤلاء الأفذاذ؟ والأجرأ من ذلك ألا يحق لنا أن ننقد العقل المستقيل المعتاش على إرث السابقين؟ بلى يحق لنا ذلك، لأن نقد الذات أول خطوة في الإصلاح.
المغامسي دعا إلى انبثاق نشأة فقهية جديدة عمادها الفكر والاجتهاد والتفكر بالواقع الحالي المعاش، والرجل عقد النية وتوجه بالرجاء لربه بأن يكون على يديه نشوء فقه معاصر رصين يواكب المستجدات والنوازل، نرجو له التوفيق.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك