بقلم: د. خالد خليفة السّعد
اعتاد الناس من قديم إذا اجتمعوا في مجلس أو مناسبة أن يطلبوا من أحدهم أن يعرّف نفسه أو يذكر نبذة من حياته، وهكذا فعل الصّحابة ذات يوم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقد حدّث خالد بن مَعْدَان عن أصحاب النّبيّ رضي الله عنهم، أنّهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، فقال: (دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمّي حين حملت بي أنّه خرج منها نور أضاءت له بصْرى، وبُصرى من أرض الشّام) -رواه الحاكم في المستدرك 4174 وصحّحه ووافقه الذّهبيّ-.
فأمّا قوله عن نفسه: (دعوة أبي إبراهيم) فيقصد بها الدّعوة المباركة الّتي دعا بها نبيّ الله إبراهيم عليه السّلام وهو يبني الكعبة ويهيّئ البيت الحرام للطّائفين والعاكفين والرّكع السّجود: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) -البقرة: 129-.
لقد دعا إبراهيم ومن ورائه ابنه إسماعيل عليهما السّلام ربّهما ألاّ يترك ذرّيّتهما بلا هداية، ولا يحرمهم هذا الإنعام العظيم والمتمثّل في نعمة الإيمان والعبادة لله وحده. فاستجاب الله دعاءهما ببعثة النّبيّ محمّد عليه الصّلاة والسّلام، الّذي تلا على النّاس الآيات المعجزات، وعلّمهم القرآن والسّنّة، وطهّرهم من الأرجاس الحسّيّة والخلقيّة.
وأمّا قوله: (وبشرى عيسى) فلأنّ عيسى عليه السّلام بشّر بنبوّةٍ عامّةٍ تهدي البشر كلّهم إلى الله تبارك وتعالى، وقد صرّح القرآن بهذه البشارة في قوله: (وَإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَ?ذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) -الصّفّ: 6-.
وفي الإنجيل كلمات تبشّر ببعثة النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم وتشير إلى بعض صفاته، كشف عنها عدد من النّصارى الّذين شملتهم ألطاف الله تعالى ورحمته فشرح صدرهم للإسلام، وهذه الكلمات جديرة بأن نقف عندها متأمّلين:
فَمِنْ ذلك قول عيسى عليه السّلام: (إنّ أركون العالم سيأتي وليس لي من الأمر شيء) وأركون العالم هو عظيم العالم وسيّده. فَمَنْ هو سيّد العالم الّذي أتى بعد عيسى وصارت شريعته ناسخة لكلّ الشّرائع السّابقة، وبلغ دينه ما بين المشرق والمغرب، وامتلأت به جنبات الأرض تسبيحًا وتحميدًا وتهليلًا وتكبيرًا؟ أليس هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟!
ثمّ تأمّلوا قوله: (أركون العالم) أي سيّده، وطابقوا بينه وبين قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: (أنا سيّد ولد آدم ولا فخر) [رواه ابن ماجه في سننه برقم 4308-.
وجاء في الإنجيل: (إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الرّبّ أن يبعث إليكم بارقليط يكون معكم إلى الأبد)، وبارقليط كلمة تعني في لغتهم: محمّد أو أحمد كما جاء في القرآن: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ) -الصّفّ: 6-. فمن هو الرّسول الّذي بُعث بعد عيسى وبقي كتابه ودينه صحيحًا إلى الأبد؟
وجاء في الإنجيل أيضًا: (أنا ذاهب إلى ربّي وربّكم ليبعث لكم البارقليط الّذي يأتيكم بالتّأويل، وذلك أنّه يأخذ من الّذي أخذت، وهو روح الحقّ الّذي لا يتكلّم من قِبَلِ نفسه، إنّما يتكلّم كما يقال له يقول، وهو يشهد لي، وكلّ شيء أعدّه الله لكم يخبركم به).
فمن هذا الّذي لا يتكلّم إلاّ بما يُوحى إليه؟ أليس هو النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم الّذي قال الله تعالى عنه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) -النّجم:3-4-ومن هو النّبيّ الّذي جاء عقب عيسى عليه السّلام، وشهد له، ودافع عنه، وأقرّ بنبوّته، وبرّأه وأمّه من البهتان الّذي رمتهما به يهود؟ ومن هو الّذي أخبرنا بالحوادث الّتي ستقع، وبعلامات السّاعة الصّغرى والكبرى، وتفاصيل ما أعدّه الله عزّ وجلّ للمؤمنين في الجنّة من النّعيم، وللكافرين في النّار من العذاب؟
وممّا جاء في الإنجيل: (إنّ البارقليط الّذي يرسله ربّي يعلّمكم كلّ شيء، ويعرّفكم جميع ما للرّبّ). فمن هذا الّذي أرسله الله بعد عيسى وعلّم النّاس كلّ شيء يحتاجونه من أمر الدّين؟ أليس هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم الّذي أخبر الله تعالى عنه: (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) -البقرة: 151-
ومن هو الرّسول الّذي بُعث بعد عيسى وعرّف العالَم بحقوق الله تعالى وبأسمائه الحسنى وصفاته العُلى؟ إنّ هذه النّعوت كلّها وهذه الصّفات الّتي ذُكرت في الإنجيل إنّما تنطبق على النّبيّ محمّد الّذي ختم الله به الأنبياء، وعلى رسالته العظمى الّتي ختم الله بها الرّسالات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك