شكَّلتْ المقدمةُ الطلليّةُ العتباتِ النصيّةَ الأولى لطقوسِ العبورِ في القصيدةِ الجاهليّةِ وتقاليدها الأدبيّةِ والجماليّةِ في عصرِ مَا قَبل الإسلامِ، واستمرَّ حضورها الكبيرُ في كثيرٍ من قصائدِ العصرين الإسلاميِّ والأمويِّ. وعلى الرغمِ من ثورةِ الشاعرِ العبَّاسيِّ أبي نواس وتهكمهِ عَلى الأطلالِ ودعوتهِ إلى استحداثِ أدبياتٍ جديدةٍ تليقُ بمرحلةٍ حضاريةٍ جديدةٍ لاَ علاقةَ لها بثقافةِ الصَّحراء، وتمثلُّ قطيعةً معرفيّةً معها إلا أنَّ عدداً كبيراً من الشُّعراءِ العبّاسيين(الفحول) حافظوا في بعض قصائدِهم على المقدماتِ الطلليّة، ومنهم بشّار بن بُرد، والعبَّاس بن الأَحنف، وأبو تمَّام، والبُحْتُريّ، وابن الروميّ، وأبوالطيّب المتنبيّ، وأبوفراس الحَمدانيّ، والشريف الرَضيّ، والشريف المرتضي وغيرهم. ولقد برزت المقدمة الطلليّةُ كذلكَ عند شعراءَ متأخرين مثل أسامة بن منقذ، وابن الساعاتيّ، ومحمود سامي الباروديّ وغيرهم. وفي العصرِ الحديث كانَ للأطلالِ حضورُها الشعريُّ المؤثِّرُ في قصيدةِ (الأطلال) للشاعرِ المصريِّ إبراهيم ناجي، وهي القصيدةُ التي أبدعتْ في غنائها كوكب الشرق السيدة أم كلثوم. لقد حافظتْ نصوصٌ الأطلالِ العربيَّةِ على بقائها في الشِّعريةِ العربيَّةِ القديمةِ على الرغمِ من التحولاتِ الثقافيّةِ البنيويةِ الكبرى الحاصلةِ في الثقافةِ العربيَّةِ آنذاك، وانتقالها من الثقافةِ الشفهيّةِ إلى تقاليدِ الثقافةِ الحضريةِ المكتوبةِ بكافة طقوسِها ومظاهرها، إلى جانبِ حضورِ المؤثِّرِ العقائديِّ الإسلاميِّ خاصةً في الشعرين الإسلاميِّ والأمويِّ.
ولَمْ تكنْ المقدماتُ الطَلليّةُ في الشِّعرِ العَربيِّ القديمِ مجردَ نصوصٍ تَكراريةٍ قائمةٍ فقط عَلى الاحتذاءِ المطابقِ لشعرِ الأوائلِ والسابقين في متخيّلهم، وفي بلاغتهم وموسيقاهم الشعرية وكافة طقوسهم الفنيّة. إنَّ المقدماتِ الطَلليّةَ في الشِّعرِ العَربيِّ القديمِ هي نصوصٌ استثنائيةٌ تحتفي ببلاغةِ المغايرةِ والاختلافِ؛ وبالتالي هي نصوصُ الحَركةِ وليستْ نصوصُ السكونِ والثَباتِ. كَما أنَّ هذه المقدماتِ الطَلليّةَ كانتْ عند شاعرِ ما قبل الإسلامِ ذاتَ علاقةٍ وثيقةٍ بكونه الشعريِّ بما في ذلك رؤيةُ العَالمِ عنده، ولذلك أرادَ هذا الشاعرُ القديمُ استنطاقَ مفرداتِ الكونِ مِن خلالِ استنطاقِ بنيةِ الأطلالِ أو الصُّمِّ الخوالدِ التي تتكلمُ، وفقَ تعبيرِ الشَّاعرِ الجاهليِّ سلامة بن جندل الذي يقولُ:
وقفتُ بها مَا إِنْ تُبِينُ لِسائلٍ
وَهَل تَفْقَهُ الصُّمُ الخَوالِدُ مَنْطِقِي
تطرحُ مدوَّنةُ الأطلالِ الشِّعرية العربيّةِ سؤالاً كبيراً هو مَا سببُ حضورِ الأطلالِ في القصيدةِ العربيَّةِ القديمةِ على اختلافِ عصورها، على الرغمِ من تغايرِ المرجعياتِ الثقافيّةِ والمعرفيّةِ التي كانَ يصدرُ عنها بعضُ الشُّعراءِ العربِ بعد عصرِ ما قبل الإسلامِ، وهم الشعراءُ الذين احتفوا بالطَللِ في بعضِ قصائدهم. لقدْ اختلفَ الكونُ الشِّعريُ للشاعرِ العربيِّ في العصرين الإسلاميِّ والأمويِّ، وكذلكَ في العصورِ العربيّةِ اللاحقةِ، واختلفتْ أسئلته الكونيةُ عن شاعرِ ما قبل الإسلامِ، واختلفتْ الذاتُ الثقافيةُ، واختلفتْ مرجعياتها الأيديولوجيةُ العقائديةُ والفكريةُ والفلسفيّةُ والثقافيّةُ من «قِفَا نَبْكِ» في معلقةِ أميرِ شعراء العصر الجاهليِّ امرئ القيس وصولاً إلى شاعرٍ رومانطيقيٍّ حالمٍ من جماعةِ أبولو الشعرية هو الشاعرُ المصريُ إبراهيم ناجي. ولا نستطيعُ دراسةَ (الأطلال) في أيِّ قصيدةٍ إلا من خلالِ بيانِ العلاقةِ البنيويةِ الرابطةِ بين العتبةِ النصيّةِ (الأطلال) بمجملِ بنيةِ القصيدة.
إنَّ مدوَّنة الأطلال في الثقافة العربيّة الكلاسيكيّة هي مدوَّنة تأسيسيّة تحيلنا ثقافيًا إلى نصوصِ ثقافيّةٍ أخرى موازيةٍ لها في الثقافةِ العربيّةِ نفسها: نصوصٍ تحتفي بالنوستالجيا والذاكرةِ الاسترجاعيّةِ، وتحتفي كذلكَ بالكشوفاتِ الشِّعريةِ الكونيّة ِوبالسَّرديات الاستباقيّة في الأثر والمتخيّل. إنَّ نصوص(الأطلال) في الثقافة العربيّة هي مجازاتٌ ثقافيّةٌ وسردياتٌ كبرى (Grand Narratives)، وهذا الذي حفظَ للأطلالِ على اختلافِ تنويعاتها البقاءَ والديمومةَ منذُ أكثرَ من ألفٍ وخمسمائةِ عامٍ!
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك