ويظل الحوار مع الروائي والكاتب السيناريست أمين صالح في صلب حكايته مع الإبداع رسائل تتوزع ضمن خرائط البعُد الثقافي، ففي الجزء الثاني من الحوار يظل بابه مشرعاً أمام محبيه:
{ من هم أبرز الروائيين العالميين والعرب الذين يقدّر أمين تجربتهم ويدعو إلى الاحتذاء بهم للنهوض بالمنتج السردي المحلي؟
- الأسماء، في الأدب العربي وفي الأدب الأجنبي، كثيرة. شخصياً، خلال مسيرتي منذ أن كنت غرًّا، تأثرت بما لا يُحصى من الكتّاب والفنانين والمفكرين. تعلّمت من كل اسم شيئاً مهماً، سواء في الفكر أو الأسلوب أو التقنية.
لكن لا ينبغي أن تحتذي حذو كاتب آخر بحيث تصير نسخة منه. من الطبيعي، ومن البديهي، ومن الضروري، أن تتأثر بكل ما تقرأ وتشاهد، لكن من المهم أيضاً أن تكون مستقلاً ومتميزاً في رؤيتك وطريقتك وطموحك.
{ هل ترى أن الجوائز الأدبية في مجال الرواية كالبوكر وكتارا قد أسهمت في نضج الرواية وساهمت في انتشارها؟
- لا شيء يسهم في نضج الرواية إن جاء من الخارج ولم يأت من الداخل. أعني، إن لم يكن نابعاً من وعي الكاتب وموهبته ورؤيته وثقافته وتفاعله مع واقعه ومع الآخرين.
الجوائز الأدبية عبارة عن محفّزات ومكافآت ووسائل تشجيعية، تسهم في رواج وانتشار الروايات الفائزة لكنها لا تؤدي إلى إحداث تغيير أساسي في كينونة الرواية ومقوماتها وخاصياتها وبناها. الجوائز عوامل خارجية لا تؤثر في العملية الأدبية، ويمكن الاستغناء عنها في أي وقت، من دون أن تتأثر الحركة الأدبية.
{ هل تشجع على ترجمة السرديات العربية والمحلية إلى اللغات العالمية؟
- بالطبع، الترجمة مهمة، وضرورية، لتوسيع مساحة التلقّي، والتفاعل مع اللغات والثقافات الأخرى. لولا الترجمة لما تطورت الحضارات في مختلف أنحاء العالم منذ آلاف السنين. عبر الترجمة يتم تلاقح الثقافات وتبادل التجارب والخبرات والتفاعل الجدلي بين حضارة وأخرى.
لكن المكتبة العربية فقيرة، أو محدودة جداً، في مجال الترجمة. لذلك لا يصل الإبداع العربي، إلا فيما ندر، إلى مواقع أخرى متناثرة في أرجاء العالم. وهذه، في حد ذاتها، كارثة.
{ ما أبرز النصائح التي توجهها لكتّاب السرد الجدد؟
- عادةً أتجنب تقديم النصائح لأنها توحي بانتحالي صفة المعلّم والأستاذ. عندما يعرض عليّ كاتب شاب نصه، طالباً مني إبداء الرأي في عمله (وهذا ما لا أحبه)، فإنني أحرص على الإشادة بإيجابياته، والإشارة إلى سلبياته، تاركاً أمر تدارك السلبيات للكاتب نفسه، فإن شاء أن يجري تعديلات أو لم يشأ، فذلك متروك له. وإذا أصرّ على طلب النصيحة، فإنني أنصحه أن يخطئ كثيراً، أن يرتكب ما لا يُحصى من الأخطاء، لأن من أخطائه يتعلّم وينمو ويتطور.
{ كيف تفسر ندرة النصوص المسرحية الرصينة في الساحة الأدبية البحرينية؟
- عندي احتمالات، وليس تأكيدات مطلقة. احتمال أن يكون السبب قلة عدد من يمارس كتابة النصوص المسرحية قياساً إلى الأشكال السردية الأخرى. أو ربما لعدم وجود جهات تشجع على كتابة النص المسرحي، كما كان الحال سابقاً مع إقامة إدارة الثقافة لمسابقات في التأليف المسرحي، ومع كل مسابقة نجد مشاركات عديدة متفاوتة المستوى. أو ربما لأن الفرق المسرحية لا تتعامل مع النصوص المحلية بجدية، بل إنها لا تكترث بها، فتسبب إحباطاً للكتّاب.
قد تكون هناك أسباب أخرى. لا أدري. لست ملمّاً بكل شيء.
{ هل تميل للفصحى أم العامية في إعداد السيناريو السينمائي والدرامي؟ ولماذا؟
- هذا يعتمد على الموضوع. إن كان العمل قائماً على مادة تاريخية، فمن المستحسن تقديمها باللغة الفصحى. أما إذا كان العمل معاصراً، فيحتمل الفصحى أو العامية.
وشخصياً أميل إلى العامية التي تكون عادةً مفهومة بالنسبة للمشاهد العربي، إي قريبة إلى حدٍ ما من الفصحى. أشعر أن هذه اللغة (الثالثة، حسب تسمية البعض) سلسة وطيّعة، ويمكن توظيفها بشكل جيد للتعبير بإقناع عن الشخصيات.
من جانب آخر، ليس سهلاً على الممثل المحلي أن يؤدي بالفصحى بصدق ويُسْر، وبطلاقة.
{ ما هي أحب أعمالك إلى نفسك؟
- كأنك تسأل أباً، أي أطفالك هو الأحب إلى نفسك.
هذه إجابة تقليدية استعين بها وأنا مطمئن.
كل كتاب بمثابة تجربة منفردة لها ذكرياتها الحلوة والمرّة، لها مزاياها الحسنة وسلبياتها، لها قيمتها الخاصة، ولها دورها المهم في التقدّم والتطوّر والتحوّل. التقييم النقدي شأن آخر لا علاقة له بعاطفتي تجاه كتاب ما. قد ارتبط عاطفياً بنصٍ، ويكون مفضلاً لدي، لكنه لم يجد صدى طيباً على المستوى النقدي، أو قد يحدث العكس. هذه أمور نفسية وعاطفية ربما لا تجد لها تفسيراً عقلانياً.
النقطة الأخرى، قد تحب أو تفضّل نصاً معيّناً اليوم، ثم يتغيّر موقفك ورأيك غداً في النص ذاته، فلا تشعر بذلك الاقتراب الحميمي الذي انتابك بالأمس. المسألة لا تتصل بالمنطق والأحكام المطلقة.
{ كيف تنظر للأدب النسوي البحريني، سواء فيما تنتجه المرأة أو ما يكتب عنها؟
- «الأدب النسوي» مفهوم لا أستطيع أن أفهمه ولا أميل إلى استخدامه. في الإنتاج الفني والأدبي، ما يهم هو القيمة الإبداعية للعمل ومدى عمق رؤيته وأبعاده الجمالية، وليس جنس الكاتب. الذكورة أو الأنوثة ليست معياراً فنياً أو قياساً نقدياً. تبهرني أعمال فرجينيا وولف لأنها كتابات إبداعية بالدرجة الأولى وليس لأنها امرأة. لا أشعر بأن ثمة جدوى من التوكيد على هوية الكاتب، واجراء المقارنات في هذا الخصوص، والمفاضلة بين هذا وذاك. ما تنتجه المرأة لا يختلف عما ينتجه الرجل. المشاعر والأحاسيس والعواطف والعلاقات ونتاجات الذاكرة والمخيلة هي ذاتها، لا تتغيّر من ذكر إلى أنثى. إنها موجودة في الكائن البشري. واللغة والأساليب والطرائق والعناصر الجمالية هي ذاتها. والقارئ يتفاعل بالدرجة ذاتها دونما تحيّز أو تعصّب.
وإذا شئنا أن ننخرط في التقسيمات والتصنيفات، فسوف نتهور ونعلن عن الاختلاف بين كتابة المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، وكتابة الرجل السعيد والآخر التعيس.. ولن ننتهي من هذه التصنيفات العبثية.
{ ما رأيك في تجربة الجواشن مع قاسم حداد، وهل يمكن أن تتكرر معه أو مع أديب آخر؟
- سئلت أكثر من مرّة عن تجربتي في كتابة «الجواشن» مع الصديق الشاعر قاسم حداد.. في موقع ما، قلت:
«إنها إحدى التَّبلورات التي تشكـّل سياقاً منسجماً مع طموحي التعبيري الذي يذهب إلى مغامرة الكتابة، ولأن تجربتنا ترافقت عبر الزمن والمسافة الفنية والرؤية المتقاربة، فقد تحولت إلى كتابة نص مشترك مشحون بالمتعة والمكتشفات الخاصة».
في موقع آخر قلت:
«النص ثمرة رفقة أدبية طويلة، وصداقة حميمة، ورؤى مشتركة فنيا وفكريا. كانت التجربة انحيازاً لرغبة الاكتشاف بواسطة كتابة لا تخضع لأية سلطة».
وفي موقع آخر قلت:
«كان مهماً بالنسبة لكلينا أن يُقرأ نص الجواشن كما لو أن كاتباَ واحداً قد كتبه. بمعنى أن يأتي القارئ تاركاً خلفه أي إدراك مسبق لخاصية الكتابة عند كل واحد منا، كي لا يشغل نفسه بأمور هامشية لا تتصل بالنص ككيان قائم بذاته.. مثل عقد مقارنة بين الأسلوبين، أو البحث اللا مجدي عن حضور كاتب هنا وآخر هناك. لذلك كان التجانس ضرورياً وشرطاً أوّلياً لكتابة عمل مشترك».
ثمة تأكيد هنا على الرفقة الحياتية والثقافية، وعلى التجانس الرؤيوي فيما يتصل بالفكر واللغة وفعل الكتابة، وعلى الطموح التعبيري الجمالي المشترك.. كشروط ضرورية لأية كتابة مشتركة.
هل نكرر التجربة؟
لا أنا ولا قاسم فكرنا في تكرار التجربة، إذ ما وجدنا المبرّر ولا الرغبة ولا الدافع.
مع كاتب آخر؟ لا اعتقد. لنفس السبب: لا مبرّر ولا رغبة ولا دافع.
{ هل ينبغي أن يكون للأديب مشروعاً ثقافياً يعمل على دسّه في منجزه الأدبي؟
- ليس بالضرورة. المشروع الثقافي شأن خاص بالكاتب وليس شأناً عاماً. ومن الطبيعي أن يوظف الرواية، أو أي شكل فني آخر، ليطرح من خلال ذلك ما يشغله من مفاهيم وطرائق وأساليب.
لكن إذا كان التوظيف قسرياً (كما يوحي سؤالك، مع استخدام كلمة «دس») فذلك أمر غير مستحب، لأنه يشكّل عبئاً على النص، وسوف يبدو الافتعال جلياً.
{ هل ترى أن النقد الأدبي بصورته الحالية قادر على النهوض بالأدب، وكيف تفضل أن تكون القراءات الأدبية للمنتج الأدبي؟
-لست أنا - ككاتب نصوص، من يحدّد طبيعة وكيفية القراءة الأدبية للنص بل الناقد نفسه هو من يحدّد ذلك. لا أستطيع أن أفرض رغباتي وأمنياتي في هذا الشأن. ومثلما أرفض، ككاتب، أي قراءة نقدية تأتي من خارج النص وليس من داخله، كذلك من حق الناقد أن يرفض أي إملاء يأتي من آخر في كيفية قراءته للنص.
كل ناقد له منهجه الخاص ولغته الخاصة وتجربته الخاصة. لذلك تجد أن هناك قراءات وتأويلات متعددة للنص حسب منظور كل ناقد وكل قارئ. في نظري، الشرط الأساسي في العلاقة بين الناقد والمنتج الثقافي، هو ضرورة توفر عاطفة الحب. أن يحب الناقد النص حتى لو تعامل معه بقسوة وصرامة.. تماماً كما الأب. إذا جاء إلى النص حاملاً كماً من الكراهية له، فسوف لن يفيد أحداً، ولن يسهم في شيء مجدٍ، وسوف يبدّد وقته فيما لا ينفع.
الناقد المبدع يسهم في تحريك الأجواء الثقافية، وفي تفعيل العلاقة بين الكاتب والقارئ من جهة، والكاتب والمناخ الثقافي العام من جهة أخرى، وفي إضاءة النصوص وتركيز الانتباه على مكامن القوة ومكامن الضعف في النص. هذا يعني أن وجود الناقد المبدع ضروري ومهم. حضوره حضور للفعاليات الديناميكية التي تتصل بأطراف العمل الإبداعي (النص، الكاتب، القارئ). وغيابه غياب للحوار والتفاعل والعلاقة الجدلية. كما أن في غيابه تنتعش - وقد تهيمن – الكتابات الرديئة، السيئة، السطحية والاستهلاكية، والتي عادة تنتشر عندما يبتعد الصوت الناقد عن الساحة الثقافية، وتختفي المساءلة والحوار الجاد الصارم.
{ ما الذي تمثله لك القصة القصيرة، وكيف ترى مستقبل القصة القصيرة جدا؟
- بدأت كاتباً للقصة القصيرة، بالتالي فإن العلاقة بيننا لا تزال قوية وحميمة، حتى وإن اتجهت نحو مسارات أخرى. في رواياتي، تجد قصصاً قصيرة مبثوثة هنا وهناك. كذلك في الأفلام القصيرة القائمة أساساً على قصص قصيرة.
أما عندما تسأل عن «مستقبل» القصة، أو مستقبل أي شيء آخر، فإننا تلقائياً ندخل في نطاق التخمين والافتراض والاحتمال. هنا لا شيء مؤكد، لا شيء يقيني. وأي إجابة تدخل في باب التمني أو الرجاء أو التوقّع. لذا يؤسفني أن أخبرك بأنني لا أستطيع أن أرى المستقبل بوضوح.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك