بقلم: أ. د. أمين عبداللطيف المليجي
قبل أن أبدأ في تدبر هذه الآية الكريمة، أود تأكيد أمر مهم، وهو أن الله سبحانه خالقنا ويعلم كل شيء عنا، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وإن مسألة القضاء والقدر حق والإيمان بها مسلم به، أي إن لكل إنسان قدره الذي حدده الله له، وذلك في أمور لا دخل للإنسان فيها، مثل عمر الإنسان ورزقه وما سيحدث له في المستقبل بعد أن يأخذ بكل الأسباب، ولكن هناك أمورا يفعلها الإنسان من خلال نفسه أو بوسوسة الشياطين وتلك الأمور التي سيكتبها الله لنا، ودليلي على ذلك الآية التي عنونت بها المقال، (قُل لَّن يُصِيبَنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة-51)، وسوف أشرح ذلك الأمر، ولكن بالنسبة إلى تفسير هذه الآية وسبب نزولها كما ورد في كتب التفسير، فإن تفسيرها يختلف تماما عن ما أود توضيحه، لابد أن نفرق بين أمرين مهمين، الأمر الأول وهو ما كتب الله لنا، والأمر الثاني وهو ما كتب علينا، وتلك هي الإشكالية الكبرى التي يجب أن ننتبه إليها، لأننا نفعل أشياء كثيرة منها الخطأ ومنها الصواب ثم نقول هذا قضاء وقدر، أو نقول الله هو من كتب ذلك، ارجع إلى الفرق الكبير بين ما كتب الله لنا، وما كتب الله علينا، وأضف إلى ما أقول قول الحق سبحانه (وَأنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأحْسِنُوا ۛإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة-195)، بالرغم أن الآية جاءت بعد الحث على الإنفاق في سبيل الله وعدم البخل، لأن ذلك سوف يورد الإنسان مورد التهلكة.
ولكن والله أعلم يمكن تعميم هذا النهي على أمور عدة، فمثلا إذا صعد أحد من الناس وألقى بنفسه من أعلى جبل، يحق لنا أن نسأل، هل الله هو من أمره بذلك؟ والسؤال الثاني والمهم، هل الله كتب له أم كتب عليه أن يلقي بنفسه من فوق الجبل؟، اعتقد بأن الإجابة واضحة عن السؤال الأول، وهو أن الله لن يأمره بأن يلقي بنفسه من فوق الجبل، ودليلنا الآية الكريمة (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، الإجابة عن السؤال الثاني وهي الفكرة المهمة التي يدور حولها المقال› والسؤال مرة أخرى، هل كتب الله لنا أم كتب علينا؟ الله سبحانه لم يكتب عليه أنه سوف يلقي بنفسه من فوق الجبل، بل كتب له فعله الذي قام به، فهو من ألقى بنفسه من فوق الجبل وأزهق روحه.
ولذلك نجد أن الله قد حرم قتل النفس تحريما شديدا، إلا بالحق، ووصف الأمر بأن من قتل نفسا بغير نفس كأنما قتل الناس جميعا، (مِنْ أجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة-32).
الحق سبحانه يكتب لنا كل ما نفعله، فكل فعل يكتب ويسجل صوتا وصورة، ومعنى ذلك أن كل فعل من خير أو شر يقوم به الإنسان يكتب في صحيفته وليس مكتوبا مسبقا، إلا ما ذكرناه سالفا، ولكن الله يعلم ما سيقوم به الإنسان ولا يتدخل فيما يفعل، بل يترك الإنسان فإن كان الفعل خيرا يجازيه الله خيرا على فعله سواء في الدنيا أو في الآخرة.
ففي الدنيا يقوم الإنسان بالاجتهاد والله يذلل له كل عقبه كلما سعى، ويكشف له من خيره، فإذا كان يقوم ببحث علمي مثلا للوصول إلى دواء لعلاج مرض ما وأخذ بكل الأسباب، فإن الله يفتح له باب علمه ويوفقه إلى الوصول إلى ما سعى إليه، وهذه المسألة يستوي فيها المؤمن وغير المؤمن بالله، وإذا فعل الإنسان الشر، يتركه الله ثم يكون العقاب سواء في الدنيا أو في الآخرة.
ربما يسأل سائل: لماذا يترك الله الإنسان يفعل الشر؟ الإجابة سهلة جدا، لأن الله كرم الإنسان على كثير من خلقه وأعطاه العقل الذي يميز به، وهذا العقل هو الذي يميزه عن الحيوان الذي لا عقل له، ولذلك فإن الله قد رفع القلم ولم يكتب ذنبا على الطفل حتى يعقل، وعلى المجنون حتى يشفى من مرضه، وعلى الشيخ الكبير الذي بلغ من الكبر عتيا وأصبح في أرذل العمر، وينسى كثيرا ولا يدري ما يدور من حوله، وهو ما عرف حديثا بمرض الزهيمر.
ويدخل تحت هذا الأمر وعدم المؤاخذة من الله، كل من تعرض لإيذاء نفسي وأصبح تحت تأثير السحر مثلا، أو من مرض مرضا نفسيا شديدا، أو من مسه الشيطان وهو طفل صغير ولازمه في أمور كثيرة يفعلها وهو لا يدري خطورتها، ويغيبه عن الوعي ساعة أن يجره لهذه الأفعال جرا، ومس الشيطان موجود وذكره الله في القرآن، (الَّذِينَ يَأكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) (البقرة-276)، وقال أيضا»: (إنَّ الذين اتقوا۟ إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِّنَ الشيطانِ تَذَكَّرُوا۟ فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف-201).
ودليل آخر على أن الله يكتب لنا كل ما نفعله، ولا يسطره عنده مسبقا، قوله تعالى في سورة ال عمران: (لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)) فهم قالوا قولهم ولم يكن مسجلا مسبقا عليهم، فقال الحق (سنكتب ما قالوا) فلو كان ما قالوه مسجلا مسبقا، لقال الحق مثلا كتبنا ما سوف يقولونه.
لأن الإنسان هو من يصنع حدثه بيده، ولذلك قال الحق سبحانه في سورة الشمس (ونفس وَمَا سواها (7) فألهمها فُجُورَهَا وتقواها (8) قد أفلح مَن زكاها (9) وقد خَابَ مَن دساها (10))، أي إن الله سبحانه قد ترك حق الاختيار لنا فيما نفعل في حياتنا، فإن كنت في دراسة مثلا فلك حق الاختيار فيما سوف تصنع، إما أن تذاكر وتجتهد لكي تنجح، أو تتكاسل ولا تذاكر ولا تذهب لحضور المحاضرات أو الحصص، هنا يتدخل الحق سبحانه، فمن ذاكر واجتهد تكن النتيجة النجاح والتفوق، وحتما سيكون الرسوب لمن تكاسل ولم يذاكر جيدا.
وفي العمل تجد من يجتهد في عمله وينجزه سريعا وبإتقان قد ترقى في المناصب أما الآخر فمحلك سر.
ويتدخل الله لمنع شر أو دفع بلاء عن من دعاه واستغفر، ويزيد من الخير لمن شكر.
أخيرا أود أن أقول إنني لم أكتب في هذا الموضوع لأثير جدلا، بل لكي أنبه إلى أهمية استعمال العقل، وإلى أهمية الاجتهاد والسعي، وترك الكسل ولا نرجع كل شيء إلى أنه قضاء وقدر. فالقضاء والقدر بريء من جهلنا وتخلفنا وتذيلنا ركب التقدم البشرى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك