بقلم: دكتور غريب جمعة
عرفنا في الحلقة السابقة أن القرآن يأخذ بيد العقل البشري ويهديه إلى أقصر الطرق للتعرف على خالقه والإيمان به والسجود لعظمته وقد وضع له قانونًا وقائيًا عامًا في قوله تعالى:
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى/١١)
وهذا القانون يطبقه كلما أحتاج إلى مدافعة وهم من الأوهام في تصور ذات الله الخالق جل جلاله.
وقد عمي المحجوبون عن ربهم عن هذا القانون فركبوا متنا عمياء ليضربوا بها في بيداء من الضلال البعيد.
ولما انحرفت عقول البشر عن منهج القرآن في الهداية إلى الله والإيمان وإفراده بالوحدانية ظهرت طوائف من البشر ضلت وأضلت وعميت عن الصراط المستقيم.
لقد ظهرت طائفة الملحدين الذين أهملوا الاستدلال بآيات الله على توصية لأن الإلحاد في حقيقته هو الميل عن الاستقامة. والإلحاد في الآيات مستعار للعدول والانصراف عن دلالة الآيات الكونية على ما دلت عليه أما الإلحاد في الآيات القولية فهو مستعار للعدول عن سماعها والطعن فيها وفي صحتها وصرف الناس عن سماعها.
وظهرت طوائف تعبد الأصنام والأوثان، والوثن هو صورة من حجر أو خشب مجسمة على صورة إنسان أو حيوان، وهو أخص من الصنم لأن الصنم يطلق على حجارة غير مصورة مثل أكثر أصنام العرب وكانت أصنام قوم إبراهيم صورًا قد نحتوها.
قال تعالى: (أتعبدون مَا تَنْحِتُونَ( (الصافات/95).
وزعم بعض عباد هذه الأصنام والأوثان أنهم عبدوها لتقربهم زلفى إلى الإله الحق وفي ذلك يقول عز وجل: (ألَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ). (الزمر/3).
ثم تعددت المعبودات من مخلوقات الله مثل الشمس والكواكب والنار والشجر والبقر وتضاعفت أعدادها حتى صارت عند بعض الأقوام بالمئات ثم كان على رأس هذه المعبودات الشيطان الرجيم.
يقول العلامة محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير): «وعبادة الشيطان: عبادة ما يأمر به من الأصنام ونحوها» ولكن الشيطان لم يكتف بعبادة ما يأمر به من الأصنام ونحوها فاستزل (أوقع في الزلل) طائفة من البشر فجعلهم عبادًا له بوساوسه يأتمرون وبتزيينه للمعاصي يعملون وبمحاربتهم لله يتباهون».
ولعلك تقف وقفة تدبر خاشع لقوله تعالى: (ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(61)وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖ أفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62)).(يـــس60/61/62).
تأمل ما في هذه الآية من الإعجاز الغيبي واسأل نفسك: هل يستطيع بشر أن يقول مثل هذا الكلام؟ وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن طوائف من البشر ستهوي بها عقولها إلى الحضيض في الاعتقاد فتتحذ الشيطان معبودَا من دون الله تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه؟
ثم انظر إلى الشرور والآثام التي تملأ العالم بسبب هذه العقائد المنحرفة عن الصواب الضالة عن الهدى والاستقامة والتي اصطلى أصحابها بنيرانها في الدنيا قبل أن يصطلوا بنيرانها في الآخرة. بقول الله تبارك وتعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون). (السجدة/21).
وهكذا تتخبط البشرية في ظلمات بعضها فوق بعض بسبب إعراضها عن المنهج السديد الذي أودعه الله خاتم كتبه السماوية كي تسير على هدى ونور من ربها حتى تؤدي الرسالة التي خلقها من أجلها، ألا وهي إفراده وحده تبارك وتعالى بالعبادة والعبودية.
يقول تعالى مبينًا هذه الرسالة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات /56).
ولقد كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه أصحاب العقائد الضالة أنهم طبقوا قوانين المخلوق على الخالق جل جلاله حسب أهوائهم فتعددت المعبودات بتعدد الأهواء!!
ولكن المنهج القرآني يعصم العقل البشري من التردي في هذه الهوة السحيقة وحسبك أن تقرأ السورة التي تعدل ثلث القرآن وهي سورة الإخلاص. فقد أخرج أحمد والبخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليله؟ فشق ذلك عليهم وقالو: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: الواحد الصمد ثلث القرآن». قال العلماء: أي يعدل ثواب قراءتها ثواب قراءة ثلث القرآن من دونها. وللحديث تأويلات أخرى في موطأ مالك والصحيحين لمن أراد المزيد.
يقول تبارك وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ (4)). (الإخلاص /1/2/3/4).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك